ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) ) (١) .
ولكن الواقع على العكس من ذلك: فلم يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث عزل الدين عن الحياة، بل قصد أن الدين لا يتدخل في شؤون البشر التي تتطلبها حاجاتهم في معاشهم وحياتهم في الدنيا.
ولو عدنا إلى مناسبة هذا الحديث لاتضح لنا الأمر. فقد ورد الحديث في قصة تأبير النخل، حين قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:((ما أظن ذلك يغني شيئًا)) ، لكنه عندما عرف منهم فوائد تلقيح النخل عاد ليقول لهم:((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) .
لكن هذا الكتاب وأمثاله أرادوا بهذا الحديث حذف النظام السياسي والاقتصادي من الإسلام، بدعوى أن السياسة والاقتصاد هما من أمر الدنيا، وليس للإسلام معرفة بأصولهما وفروعهما، وهم بذلك يهدمون كل ما حوته السنة المطهرة من تنظيم لعلاقات البيع والشراء والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن أمور العلوم الطبيعية تستقى من مصادرها، فأمور الزراعة لأهلها؛ وحينما قامت الحروب وبدأ القتال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي محنك الحروب، بل إنه أمَّر ذوي الخبرات العسكرية على كبار الصحابة لأنهم أقدر على قيادة المعارك بما لديهم من خبرة ودراية.
ومصداقًا للحديث الأول كيف يتم التلقيح في الغابات؟ أليس بواسطة الرياح؟ والله تعالى يقول:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}[الحجر: ٢٢] .
أما الكاتب (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد طعن في علم الإسناد للأحاديث النبوية، ورفض إلزامية هذا العلم، وذلك في كتابه (سلطة النص) حيث قال:
(الإسناد؛ تلك الأداة العبقرية والتي تعتبر دعامة من دعامات ترسيخ النص والمحافظة عليه، بل ولعل ذلك التقليد الذي رسخ في الأجيال المتدنية جيلا بعد جيل هو من عوامل الركود والتحجر التي نعانيها عندما توقفنا عند نصية النصوص دون تجاوز حرفيتها وجمودها) .