للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول العز بن عبد السلام: "الطاعات ضربان: أحدهما: ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. والضرب الثاني ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه: كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلات" (١) ، ويوازي هذا التقسيم للطاعات تقسيم ثنائي آخر لكل ما شرعه الشارع الحكيم من معقول المعنى أو غير معقول المعنى (التعبدي) وعبر العز عن ذلك بقوله: "المشروعات ضربان:

أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، وتعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته ما ليس فيما ظهرت علته وفهمت حكمته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالاً للرب وانقياداً إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب" (٢)

أما ابن رشد فسمى التعبد بالعبادي في مقابل المصلحي حيث قال: "والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساساً للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحياً ومعنى عبادياً، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس" (٣)

ولكن هذا لا يعني كون التعبد يأتي عرية عن المصالح، فإن الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، لكن منها ما ظهرت حكمته للعقول فسمي بمعقول المعنى، ومنها ما خفيت مع الجزم بوجود حكمة ومصلحة وهو التعبدي، هذا ما ذكره خليل في توضيحه دون تجويز تجردها عن المصالح الذي أشار له ابن عبد السلام، فقال خليل عند قول ابن الحاجب في كتاب الطهارة: "ويغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً للحديث"فائدة: كثيراً ما يذكر العلماء التعبد، ومعنى ذلك: الحكم الذي لم تظهر له حكمة بالنسبة إلينا، مع أنا نجزم أنه لابد له من حكمة وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالباً للمصالح دارئاً للمفاسد، ولهذا قال ابن عابس: إذا سمعت نداء الله فهو إما يدعوك لخير أو يصرفك عن شر، كإيجاب الزكاة، والنفقات لسد الخلات، وأروش الجنايات لجبر المتلفات، وتحريم القتل والزنا والسكر والسرقة والقذف صوناً للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض من المفسدات. ويقرب لك ما أشرنا إليه مثال في الخارج: إذا رأينا ملكاً عادته يكرم العلماء ويهين الجهال ثم أكرم شخصاً غلب على ظنك أنه عالم، والله تعالى إذا شرع حكماً علمنا أنه شرعه لحكمة، ثم إن ظهرت لنا فنقول هو معقول المعنى، وإن لم تظهر فنقول هو تعبد.


(١) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص ١٨.
(٢) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص ١٩.
(٣) بداية المجتهد بحاشيتها الهداية للغماري: ١/١٦٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>