ثم إن هناك موقف متقدم وهو موقف جماعة من العلماء منهم بعض الأندلسيين من أصحاب مذهب مالك ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهم بعض الحنفية وهو أن الأوقاف مصلحية، والمصلحي هذا عبارة ابن رشد، لأنه قسم الأحكام إلى مصلحي وتعبدي، وأنه يجوز التصرف فيها حسب المصلحة الراجحة وهي عبارة ابن تيمية، وأن المصلحة الراجحة تجيز الاستبدال وتجيز المعاوضة، وهكذا وجدنا هذا المذهب مقبولاً وصحيحاً من حيث الأدلة، وبالتالي إذا وافقنا على هذا المذهب سنكون قد أزلنا عقبة كبيرة في طريق استثمار الأوقاف والتعامل معها، في الأندلس كانت فتوى ابن رشد الجد –رحمة الله عليه- صاحب البيان والتحصيل بأن وفر الأوقاف يستعمل في اشتراء الأصول وهي النظرة الاقتصادية التي أشار إليها بعض الإخوان قبل قليل فقال: الوفر هي العبارة التي استعملها أهل الأندلس وهو ما زاد عن حاجة أهل الوقف، وبالتالي فإن الوفر يمكن أن يكون أساساً للاستثمار لأن اشتراء الأصول معناه الاستثمار، ثم إن العين توقف للسلف، وهو قديم في مذهب مالك، والسلف هو قريب من المضاربة أيضاً، وقد جاء عن غيرهم أنها توقف للمضاربة، فيجب أن نرجح هذا القول فنقول: توقف العين للمضاربة للقراض وللأهداف الاستثمارية، وأن نزيل هذه العقبة نهائياً من أذهان الناس، لكن مع ذلك هناك تحذير هو أن الوقف في الأصل ما لم يكن مؤقتاً –والقول بالتوقيت في مذهب مالك- فالوقف حكمته هو استمرار العين أو استمرار المنفعة، وهناك رأيان للعلماء منهم من يقول باستمرار العين (الإبقاء على العين) ، ومن يقول بالإبقاء على ديمومة المنفعة، فلا بد إذن من اتخاذ الإجراءات للإبقاء على ديمومة المنفعة، وهذه المعادلة صعبة ويجب أن تتخذ كل الإجراءات في تحصيل هذه المعادلة.
وفي هذا الزمان نشأت وزارات أوقاف، وجرت عادات وأعراف في مختلف الأقطار الإسلامية، وهذه الوزارات أصبحت هي الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة أو الأوقاف المجهولة المصرف، وهي تتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم، إلا أن القضاء هو الذي يحكم في الخصومات، والترتيب القديم للعلماء هو الناظر، وبعده القاضي.