وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمنون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.
والحكمة في وضع المواقيت موضعها، أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال، وقلم الأظفار، والطيب، ثم التخلي عن المخيط، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار ورداء، ثم تعليم العوام كيفية الدخول في النسك، وهذه الأعمال تطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نزل بذي الحليفة ميقات أهل المدينة، ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيب.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوايد. قال:"وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا يطاق، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وأن نسب إليها". انتهى.
وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصور، من ذلك ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في عزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء: ٢٩] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقل شيئًا مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل وجوب الغسل لواجد الماء.