وقد يستشكل هذا القياس بأن الوعد في بيع الوفاء لازم على طرف واحد، وهو المشتري الأول، وليس على البائع، فإنه يسع للبائع الأول أن لا يشتريه حتى يمضي الأجل، ولكن المقصود من هذا التنظير أن الفقهاء اعتبروا حاجات الناس في إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل.
وإن عبارة قاضي خان – رحمه الله تعالى – بصفة خاصة صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، والمواعدة إنما تكون من الطرفين، فتبين أنه لا بأس بجعلها لازمة عند الحنفية لحاجة الناس.
ولا شك أن الحاجة في إلزام المواعدة ظاهرة، ليس في عقود التوريد فقط، بل في كثير من أنواع التجارة المعاصرية، ولاسيما في التجارة الدولية، فإنه لا يمكن في كثير من الحالات أن يقع البيع على سلع موجودة متعينة عند إبرام اتفاقية البيع، فكثيرًا ما تريد جهة أن تشتري كمية كبيرة من سلعة، يحتاج البائع لتوفيرها إلى وقت ولكن من صالح الطرفين أن تكون بينهما اتفاقية ملزمة للطرفين غير قابلة للنقض، لأنه لو ترك الأمر بيد كل فريق أن يمتنع من إبرام البيع كلما شاء، لتضرر به الفريق الآخر ضررًا بينًا، فمثلًا أبدى المشتري رغبة في شراء ألف طن من القمح وإن البائع لا يوجد عنده القمح بهذه الكمية، فاتفق مع المشتري أنه سوف يوفره لتاريخ معين بعد أسبوع مثلًا، ووعد المشتري بأنه سوف يشتريه في ذلك التاريخ، وإن البائع – اعتمادًا على وعده – أنفق مبالغ باهظة للحصول على هذه الكمية من القمح، وصرف جهده ووقته. وإنه استطاع بعد هذا الجهد أن يوفر القمح في التاريخ المتفق عليه، فلما عرضه على المشتري، امتنع المشتري من إبرام الشراء، فلو لم يكن وعد المشتري ملزمًا، تضرر به البائع ضررًا بينًا، فإنه لم يتكبد هذا الجهد، ولم ينفق هذه المبالغ الخطيرة إلا لهذا المشتري، وربما لا يوجد من يشتري منه ذلك النوع من القمح بهذه الكمية الكبيرة، فرفض المشتري شراءه يضيع ماله ووقته وجهده، ويسبب له خسائر لا تتحمل.