للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المناقشة:

وقد يناقش الاستدلال المتقدم – حتى لو قبلنا المسلك القائل بأن عمل المشهور بالرواية الضعيفة يجبرها فتكون حجة – بأن معنى بيع الكالئ بالكالئ لا يشمل عقد التوريد إذ لعل المراد بالكالئ هو الدين لا مطلق المبيع المتأخر بالثمن المتأخر عن مجلس العقد ثم لو كان معناه هو (كما ذكره صاحب مجمع البحرين) " بيع النسيئة بالنسيئة وبيع مضمون مؤجل بمثله، وذلك كأن يسلم الرجل الدرهم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل بقول الذي حل عليه الطعام: ليس عندي طعام ولكن بعني إياه إلى أجل، فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، نعم لو قبض الطعام وباعه إياه لم يكن كالئا بكالئ ".

فيكون معنى الحديث هو المنع من بيع دين مسبق بدين حصل في العقد، وهذا لا يشمل التوريد (الذي هو شراء سلعة بثمن) الذي يكون الدينان قد حصلا بالعقد.

النتيجة: إذا بطلت كل الأدلة على عدم جواز هذه المعاملة يبقى عندنا عموم القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فما دام يصدق على هذه المعاملة أنها عقد وتجارة وبيع فتشملها العمومات المتقدمة وهي دليل الصحة (١) .

حكم عقد التوريد عند غير الإمامية:

ثم إن عقد التوريد يشبه عقد الاستصناع عند الحنفية (٢) الذي أجازوا فيه عدم ضرورة تعجيل الثمن، بل أجازوا تأجيله إلى أجل معلوم فإذا صح عقد الاستصناع مع تأجيل الثمن صح عقد التوريد كذلك.

وذكر بعض (٣) أن عقد التوريد هو من قبل بيع الصفة: وبيع الصفة يشترط المالكية فيه ألا يقدم الثمن، كما أن البضاعة مؤجلة فيجب أن يؤجل الثمن، فيكون عقد التوريد لا إشكال فيه على رأي المالكية أيضًا.

علاقة عقد التوريد بالعقد على المبيع الغائب (بيع ما ليس عندك) :

أقول: ثبت بأدلة متعددة (٤) النهي عن (بيع ما ليس عند البائع) ولكن عقد التوريد للسلع في الآجال المعلومة لا يدخل في بيع ما ليس عندك، لأن النهي عن بيع ما ليس عندك مخصص في صورة بيع المال الخارجي المملوك للغير للبائع بدون إذن الغير بذلك وذلك:

١- لما ثبت من جواز بيع السلم، وهو في صورة عدم ملك المال خارجًا حين العقد بل يكفي أن يغلب الظن بكون السلعة عامة الوجود حين التسليم.

٢- لما ثبت من صحة بيع الفضولي إذا أجاز المالك وكان البيع له.

وحينئذ تكون أدلة ثبوت هذين الموردين مخصصة لعموم النهي عن بيع ما ليس عندك بالمبيع الشخصي الذي يكون مملوكًا للغير، فيبيعه البائع لنفسه قبل تملكه وبدون إذن مالكه.

وحينئذ لا يشمل هذا النهي عقد التوريد الذي هو عبارة عن بيع كل موصوف في الذمة على أن يسلم في مواعيد محددة لقاء ثمن مقسم على نجوم معينة، فتبين أن العلاقة بين عقد التوريد والعقد على المبيع الغائب هي علاقة التباين.


(١) أقول: هذا الرأي هو مخالف لرأي الإمامية حيث إنهم بين قائل ببطلان هذا البيع فتوى وبين قائل ببطلانه احتياطًا، ونحن إن تأملنا في صدق البيع عليها والتجارة لعدم قبض الثمن والمثمن أو أحدهما، فإننا لا نتأمل في صدق التسالم الموجود بين الطرفين فتكون صلحًا، إلا أنه حيث لا يوجد تقابض في البين ولا قبض لأحد العوضين، فلعل صدق التفاهم أولى من صدق العقد المعاملي إلا أن التفاهم إذا وصل إلى حد التعهد صار عقدًا ملزمًا، وبما أن موضوعه المعاملة الآتية فيجب العمل بالعقد الذي موضوعه المعاملة القادمة.
(٢) راجع المناقصات في العقود الإدارية، د. رفيق يونس المصري نقلًا عن المبسوط: ٢ / ١٣٩؛ وعقد الاستصناع، ص ١٧٢.
(٣) راجع مناقشة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة التاسعة، العدد التاسع، الجزء الثاني، ص ٣١٤.
(٤) راجع بحوث في الفقه المعاصر، حسن الجواهري: ١ / ٣٥٢ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>