للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحنابلة – كما ذكرنا – يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة (١) ، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بيّن ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللًا وجوب القيمة في حالة الكساد دون حالة تغير القيمة: " إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا أو قليلًا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت " (٢) .

ولو دققنا النظر في هذا التعليل، لوجدناه قائمًا على أمرين:

الأمر الأول:

الاعتماد على أن الكساد عيب، ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب، مع أن ابن قدامة نفسه حينما عرف بالعيوب قال: " هي النقائص الموجبة لنقص المالية ". ثم ذكر عدة تطبيقات في إثبات الخيار فيها قائلًا: "ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته " (٣) ، وقال أيضًا في عدم الخيار في مسألة: " ولنا أنه لا ينقص عينها ولا قيمتها. . " (٤) .

فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضًا في النقود الاصطلاحية؛ لأن القيمة عنصر أساسي في العيوب كما رأينا.

الأمر الثاني:

الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت، ويمكننا أن نقول: إن قياس النقود المغشوشة والفلوس على الحنطة قياس مع الفارق؛ لأن الحنطة ذات قيمة ذاتية لا تختلف باختلاف قيمتها، في حين أن النقود الاصطلاحية قيمتها في رواجها وقيمتها، حتى لو سلمنا هذا القياس في النقود التي ذكروها، فالتسليم بقياس نقودنا الورقية على ما ذكروه لا يمكن قبوله بسهولة.

ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية – كما نقل عنه صاحب الدور السنية (٥) - اختلاف الأسعار مانعًا من التماثل، وقاس مسألة تغير القيمة على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيبًا يكمن في كونه نقصًا في القيمة؛ لأنه ليس عيبًا في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير، ثم عقب صاحب الدور على ذلك بقوله: " إن كثيرًا من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي – أي ابن تيمية – في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضًا، وهو الأقوى " (٦) .

وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جدير بالقبول وحري بالترجيح، وهو يسعفنا في الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، وهو رعاية القيمة.

فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة ومنطلقًا للرأي الذي نرجحه، وهو اعتبار القيمة في نقودنا الورقية بالضوابط السابقة.


(١) المغني: ٤ / ٣٦٠.
(٢) المصدر السابق نفسه.
(٣) المصدر السابق نفسه.
(٤) المغني لابن قدامة: ٤ / ١٦٨.
(٥) يراجع: الدور السنية في الأجوبة النجدية، ط. دار الإفتاء بالرياض: ٥ / ١١٠.
(٦) المصدر السابق نفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>