للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين

(بالفتوى أو بالصلح الواجب)

ذهب ابن عابدين (الفقيه الحنفي المعروف) وشيخه العلامة سعيد الحلبي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود (في غير الذهب والفضة) لابد أن يتحمله الطرفان: البائع والمشتري، والدائن والمدين، فقد أوضح ابن عابدين أن النقود التي سادت عصره كالريال الإفرنجي ونحوه، كثر صدور الأمر السلطاني بتغيير بعضها بالنقص، فكان الفتوى في وقته (١٢٣٠هـ) استقرت على أنه ما إن يدفع النوع الذي وقع عليه العقد إذا كان النقد قد عُيّن، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، وأما إذا لم يعيّن المتبايعان نوعًا من هذه النقود السائدة، فإنه يدفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد على أن يعطى الخيار للدافع (أي المشتري مثلًا) .

ولكن هذا الرأي لم يرتضه ابن عابدين؛ لأنه يؤدي إلى الإضرار بالطرف الآخر (البائع) ، حيث يختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر، نظرًا إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأنفقهم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا، لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد، وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلأنه ظهر أنه يتمنع عن قصد إضراراه، ولاسيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.

<<  <  ج: ص:  >  >>