للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن يلاحظ أن حالة التغير الفاحش يجب أن تستند إلى قاعدة موضوعية، وإلا أصبح الحكم مما يحتمل التأويل ممن يفقهون وممن لا يفقهون. وعلى أية حال فإن هذه الاجتهادات جميعًا تدل بوضوح على صلاحية الشريعة الإسلامية في مواجهة كافة التغيرات الطارئة في عالمنا هذا. وكما رأينا فيما سبق أن فقهاء المذهب الحنفي خاصة كانوا مبرزين في مجال بحث المسائل النقدية ابتداء من أبي يوسف إلى ابن عابدين. ولا يعني هذا إهمال المساهمات البارزة في المجال نفسه من بعض فقهاء المذهب الحنبلي.

ويجب التأكيد هنا أن مبدأ التعويض عند الفقهاء الذين أقروه لا يسري على النقود الذهبية والفضية، يقول ابن عابدين رضي الله عنه (١) : "كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالًا مثلًا أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص " ويضيف قائلًا: " وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال (أسماء عملات معروفة حينذاك) فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع ".

والسبب الأساسي وراء هذا الرأي – فيما أظن – هو رغبة الفقيه في ضمان استمرار المعاملات بين الناس على أسس مستقرة ومتعارف عليها، فلو نقض المتعاملون أو أصحاب الديون معاملاتهم أو ديونهم بسبب غلاء أو رخص العاملة الجيدة، لأدى ذلك إلى نقض الحقوق واضطراب المعاملات، ومن ثم شيوع الفساد. ويؤكد هذا الشرح ابن عابدين أيضًا أنه حتى لو قامت السلطة المصدرة للعملة الجيدة الرائجة بتغيير سعرها بالزيادة أو النقص، فلا يلزم إلا دفع نوع العملة الذي وقع عليه الاتفاق، طالما أن نوع العملة كان معينًا عند التعاقد أو عند الدين. يقول الفقيه الحنفي: " ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق " (٢) .

وهكذا كان الاهتمام الأساسي بقضية استقرار المعاملات والديون على أسس موحدة على مدى الزمن، حتى وإن كان النقص في قيمة وحدة النقود بسبب قرار السلطة المصدرة للنقود. واستقرار المعاملات والديون بين المتعاملين وبين الدائنين والمدينين على أسس معروفة لا شك له أهميتها الكبيرة.


(١) تنبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين: ٢ / ٦٤، وابن عابدين يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، ويعتبر من أكثر الفقهاء فهمًا لموضوع النقود.
(٢) المصدر السابق نفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>