للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والواقع أن غلاء أو رخص العملة الذهبية أو الفضية - وهو تغير القيمة الحقيقية للعملة ارتفاعًا أو انخفاضًا - يرجع إلى انخفاض أو ارتفاع (على الترتيب) أسعار معظم السلع في الأسواق، وهذه ترجع إلى عوامل لا دخل للناس بها، طالما كانت الأسواق تنافسية. وحيث إن العملات المعدنية النفيسة ذات قيمة ذاتية، وحيث توافرت حرية السك أو حرية تحويل المعدن النفيس من العملة إلى السلعة وبالعكس؛ فإن غلاء أو رخص العملات لن يسبب إزعاجًا في غالب الأمر لعامة الناس. ففي حالة غلاء العملة بسبب انخفاض أسعار السلع في الأسواق، يمكن لمن يريد من الأفراد أن يذهب إلى دار السك بذهبه (أو فضته) ، وذلك لكي يحول إلى عملات، أما في حالة رخص العملة بسبب ارتفاع أسعار السلع في الأسواق، فيمكن للناس أن يحولوا ما في أيديهم من عملات عن طريق الصهر إلى معادن نفيسة يستفيدون من قيمتها السلعية في الأسواق.

لقد امتد عصر النقود المعدنية النفيسة وغيرها أمدًا طويلًا جدًا من الزمن، إلى أن ظهرت النقود الورقية (١) Paper Money في أواخر القرن الثامن عشر (ميلادي) في إنجلترا، ثم انتشرت تدريجيًا في بلدان العالم الغربي خلال القرن التاسع عشر، ثم في بقية بلدان العالم خلال القرن العشرين (الحالي) . ولم تعد هناك دولة في العالم الآن إلا ولها عملة نقدية ورقية.

ولقد مرت النقود الورقية بعدة مراحل منذ أن قامت الحكومات بإصدارها، فتميزت المرحلة الأولى بتغطية كمية النقود الورقية بمقدار من الذهب يتساوى معها تمامًا في القيمة، فتحتفظ السلطة النقدية التي قامت بإصدار النقود بالغطاء الذهبي لديها في خزانتها، وتطرح كمية النقود الورقية للتداول بين الأفراد. وتعتبر الأوراق النقدية في هذه الحالة (أوراق نائبة) أي تنوب عن الذهب. كما أن الأوراق النقدية كانت سندات لحاملها، فكان من حق كل فرد يحمل الورقة النقدية أن يتقدم إلى السلطة النقدية (البنك المركزي غالبًا) مطالبًا بقيمتها الذهبية، بموجب عبارة تعهد مدونة عليها. ونعرف هذه المرحلة باسم (الغطاء الذهبي الكامل) . أما المرحلة الثانية فقد تميزت بعدم تغطية كمية النقود الورقية المصدرة بغطاء هذبي كامل. فقد سمحت الدولة للبنك المركزي (أو لهيئة الإصدار) بأن يصدر كمية من النقود الورقية دون غطاء ذهبي. وكان هذا لأجل احتياجات النشاط الاقتصادي الذي كان يتسع حقبة بعد أخرى بمعدل يفوق الزيادة الممكنة في رصيد الذهب، الذي يستخدم كغطاء في عمليات الإصدار. وفي بداية هذه المرحلة حددت كمية النقود التي تصدر بلا غطاء تحديدًا مطلقًا، ولكن تدريجيًا أصبح غطاء الذهب يمثل نسبة معينة من الكمية الكلية للنقد الورقي المصدر. أما عن محددات نسبة الغطاء الذهبي، فمن أهمها تقديرات جهة الإصدار بالنسبة لمطالبات الأفراد بالقيمة الذهبية لنقودهم الورقية (٢) . فقد لوحظ أنه كلما زادت الثقة في النقود الورقية المتداولة، كلما قلت مطالبات الأفراد بقيمتها الذهبية – خلال أي فترة من الزمن – وبالتالي كلما أمكن التوسع في إصدار كمية أكبر من هذه النقود الورقية بنفس المستوى من رصيد الذهب. بعبارة أخرى أنه كلما ازداد القبول العام للأوراق النقدية في حد ذاتها، دون اعتبار للذهب الذي تنوب عنه، كلما أمكن لجهة الإصدار خفض نسبة الغطاء الذهبي. ويلاحظ أن النقود الورقية لم تصبح في هذه المرحلة نائبة عن الذهب إلا جزئيًا. أما من الوجهة القانونية البحتة، فقد كانت التعهدات الرسمية المدونة عليها مازالت تتيح للأفراد تبديلها في أي وقت بقيمتها الذهبية من البنك المركزي للدولة، مما جعل عامة الناس يتصورون خطأ أنها ما زالت مغطاة تغطية كاملة بالمعدن النفيس. وفي المرحلة الثالثة من مراحل تطور النقود الورقية انفصمت العلاقة بينها وبين الذهب حقيقيًا ورسميًا. ذلك أنه تحت ضغط التوسع الكبير في النشاط الاقتصادي أصبحت الحاجة ماسة إلى إصدار مزيد من النقود الورقية. ولم يعد من الممكن لمعظم الدول المحافظةُ على العلاقة بين هذه النقود ورصيد الذهب أو الوفاءُ بتعهداتها بدفع القيمة الذهبية.


(١) نسبة إلى الوَرَقِ بفتح الواو والراء؛ لأن الوَرِقَ في اللغة العربية (بكسر الراء) هو معدن الفضة.
(٢) راجع أيضًا عبد الرحمن يسري أحمد، اقتصاديات النقود، الفصل الرابع،دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (١٩٧٩م) ، أو أي مرجع آخر في اقتصاديات النقود.

<<  <  ج: ص:  >  >>