والفرق بين الربطين بارز واوضح. في الحالة الأولى لجأ المتعاقدان إلى الأرقام المطروحة في المجتمع، وحصلا على واحد منها كما هو دون تعديل فيه أو تغير. فلا يملكان تعديل بدايته ولا تعديل نهايته ولا تعديل نوعية السلع الموجودة ولا أوزانها، وقد لا تكون هذه الجوانب مناسبة للطرفين، لكنهما لا يملكان تعديلها. فهب أن تاريخ ثبوت الدين كان في رمضان لكن الأرقام القياسية تبدأ من المحرم، وهب أن تاريخ السداد هو صفر لكن الأرقام القياسية تنتهي في رجب، فمعنى ذلك عدم توافق الرقم بداية أو نهاية مع ثبوت الحق أو وفائه. أما في الحالة الثانية فيمكن تلافي ذلك كله. وسوف نرى لاحقًا أن لهذا الفرق أثره في اختلاف مواقف الفقهاء الاقتصاديين من الربط القياسي والربط غير القياسي.
المبحث الأول
الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية
في ضوء ما ورد في التمهيد السابق من المهم التحديد الدقيق لموقف الفقهاء القدامى، وهل كانت معالجتهم لقضية التضخم؟ أم كانت لمجرد تغير قيمة العملة، بغض النظر عما إذا كان هذا التغير مستمرًا متواصلًا، أم أنه حدث مرة وثبت؟ الملاحظ أن الفقهاء لم يتناولوا لفظة التضخم، بل ولم يعبروا بما يفيد أنهم بصدد علاج مشكلة التغير المستمر في قيمة العملة، الذي هو مضمون التضخم إذا ما أخذ اتجاهًا هبوطيًا.
وإنما باستقراء ما قدموه من المصادر الفقهية المتنوعة وجدنا حديثهم انصرف إلى تغير قيمة العملة، والمتأمل في هذا المصطلح يجد تميزًا عن مصطلح التضخم، فيجتمعان في بعض الصور والحالات، وينفردان في بعضها الآخر. ويمكن القول: إن الذي عنوا به هو معرفة الحكم الشرعي عندما يحدث تغير، ولا فرق هنا بين أن يكون هذا التغير قد حدث مرة ثم ثبت أو حدث على مرات متتالية.
وأعتقد أننا لو حذونا حذوهم وقيدنا بحوثنا هنا بما يحدث للعملة من تغير لكان أفضل، حتى يعم كل الحالات، ولا يعني هذا أن جوهر ظاهرة التضخم بمفهومها الحديث لم يحدث في العصور السابقة، وخاصة في الدول الإسلامية، فكل الأدلة التاريخية تؤكد حدوثها مرات ومرات. والملاحظة الثانية أن حديثهم انصرف أساسًا إلى ما كان يعرف عندهم بالفلوس، وهي تلك العملات الاصطلاحية، غير المتخذة من الذهب والفضة، ولكن هذا لا ينفي وجود أقوال لهم حيال النقود الأصلية وهي الذهب والفضة.