للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما في الحالة الأولى:

فقد ظل المسلمون في مكة عدة أعوام مضطهدين في عقيدتهم ويسامون سوء العذاب، حتى أكرهوا على الهجرة فخرجوا من ديارهم وأوطانهم، ثم أقاموا في المدينة صابرين على الظلم الذي لحقهم، وكلما همت نفوسهم بالرد على الظلم أو تطلعت للانتقام من الظالمين كان رسول بالله صلى الله عليه وسلم يردهم إلى الصبر قائلًا: ((لم أؤمر بقتال)) ، وظلوا كذلك حتى نزلت آيات القتال ترخص لهم في الدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم ضد العدوان القائم عليهم، وجاء الترخيص بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:٣٨-٤١] .

فهذه الآيات صرحت للمسلمين بالقتال لمواجهة الظلم الواقع عليهم، ورد العدوان الذي حاق بهم وأكرههم على الهجرة والخروج من الديار والأوطان بغير حق، وقد بينت الآية الكريمة أن هذا التصريح موافق لما تقضي به سنة التدافع بين الناس حفظًا للتوازن ودرءًا للطغيان وتمكينًا لأرباب العقائد والعبادات من أداء عبادتهم والبقاء على عقيدة التوحيد والتنزيه، وهكذا نجد أنه في الوقت الذي تصرح فيه الآية للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم وعقيدتهم فإنها تقرر في الوقت نفسه مبدأين متلازمين:

أولًا - مبدأ حرية الأديان كافة.

ثانيًا - مبدأ الدافع الشرعي عنها.

وأنه لولا هذا المبدأ المزدوج لفسدت الأرض وهدمت أماكن العبادة على اختلافها وتباينها، وذلك بتحكم الأقوياء والطغاة في الأديان يعبثون بها ولا رادع، ويكرهون عليها ولا مدافع، والآية لا تنظر في ذلك إلى المسلمين خاصة بل تقول في جلاء ووضوح: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:٤٠] على هذا الوجه من العموم.

وقد جاء التأكيد على حالة الدفاع الشرعي في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: ١٩٠-١٩٤] .

<<  <  ج: ص:  >  >>