في هذا البحث عرفنا حقوق الإنسان باعتبارها مزايا شرعية ناشئة عن تكريم الله تعالى للإنسان ألزم عباده باحترامها.
وبينا أن من مقاصد الباري جل وعلا في خلقه حماية هذه الحقوق وبخاصة في الكليات الخمس (الدين والنفس والنسب والمال والعقل) ، إذ بدون حماية هذه الكليات لا يمكن أن يقوم انتظام بشري.
فلولا الدين ما عبد الخالق الكريم، ولعاش الإنسان في ظلمة وعماء الحيرة والضياع، ولولا المحافظة على الأنفس لساد الهرج والمرج، وسفكت الدماء وتحولت البشرية إلى حيوانات كاسرة يقتل بعضها بعضًا، ولولا المحافظة على الأنساب ما عرف ابن أباه ولعاشت الإنسانية حياة بهيمية بدون أرحام توصل أو تعاطف يؤثر أو رعاية للصغار أو عناية بالكبار، تلك حكمة تحريم الفواحش باهرة ظاهرة لا يعمى عنها إلا الهوى الجامح.
ولولا حفظ الأموال التي بها قوام الأديان وصلاح الأبدان لما استقر لمخلوق قرار ولتهارش الناس على فريسة الدنيا كالكلاب الجياع.
ولولا حفظ العقول لضيعت الأمانة وضاعت وأهدر الإنسان أشرف منحة ربانية شرفه بها الله تعالى.
تلك هي حقوق الإنسان الحقيقية متمثلة في هذه الكليات التي أحاطها الباري جل وعلا بسياج من العقوبات الرادعة عن الإجرام، إصلاحًا للمجرم وحماية للمجتمع ورحمة بالبشرية جمعاء:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧] .
وهذه الحقوق التي جاء بها الإسلام يشهد لها العقل البريء من الهوى، وتزكيها الفطرة التي يقول عنها العلامة الإمام محمد الطاهر بن عاشور:"فشهادة الفطرة هي الأصل في تخصيص الحق بمستحقه، وإليها يرجع حق الله على عباده أن يعبدوه ويشكروه، لأنه الذي فطرهم وأوجد أصولهم، وحقه في حفظ الناس شرائعه وحفظ شعائر الإسلام والدفاع عن حوزته، وإليها يرجع حق الشخص في تصرفه في أجزاء ذاته، لأنه مختص بها بالضرورة، وحق الأم في ولدها، لأنه جزء منها وتكون فيها. وبعده حق الله في إقامة ما تعهد الله به من إيصال المنافع لأهلها، وهو الذي سمي بالحق العام الذي ليس لأحد إسقاطه مما فيه مصلحة تعم جمعًا من المسلمين لا يحصر بحيث لا يدري من تطيب نفسه بالتنازل عنه، كحفظ الطرقات والقناطر وحفظ مصالح الصبيان والمجانين والأموات "(١) .
(١) ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص ٢٨٥.