وكم يسعدني أن أغتنم هذه الفرصة لأزف إليكم أن صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني شرفني بصفته رئيسا لمؤتمر القمة الإسلامي الرابع فكلفني بأن أحمل إلى هذه المنظمة السامية وإلى أعضائها المحترمين تحياته العاطرة، ومتمنياته الصادقة، بالنجاح والتوفيق في جميع الأعمال، مؤمنا بأنها ستكون فاتحة عهد جديد لصالح الفكر الإسلامي، والفقه المحمدي، والشريعة الخالدة، مباركا أعمالها في الحال والمآل مطمئنا إلى أنها ستكون في مستوى ما يعلق عليها من آمال.
حضرات السادة،
لا يخفى عليكم أن الفقه الإسلامي عرف ككل كائن حي طور النشأة ومرحلة الشباب، وطور النضج والكمال عندما كان الأئمة الأعلام يتعمقون دراسة أصوله، من قرآن كريم، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة نبوية طاهرة، قولية، أو فعلية، أو تقريرية، قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}[آل عمران: ١٣٢] . وقال عز من قال، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النساء: ٨٠] . وإجماع دل على صحته قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء: ١١٥] . واستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة لأن الله جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا قال تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: ٨٣] . وقال عز وجل:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء: ١٠٥] ، أي بما أريك فيه من الاستنباط والقياس.
لقد انتصب الفقه الإسلامي شامخا في ربوع الأمة الإسلامية، وأضاء الفكر الإنساني بما أمتاز به من عمق وشمولية يوم كان الأئمة الأعلام يتشبثون بالثوابت التي تعتبر فوق الزمان والمكان، فلا مساغ للاجتهاد في مورد النص، ويستنبطون أحكام النوازل بما يتوافق والأعراف، وما تقتضيه المصالح المرسلة والاستحسان، فيختلفون اختلافا طبع على التسامح، إذ اختلاف أمتي رحمة، وينتجون نتاجا أثرى المعرفة الإنسانية، وحرر الفكر البشري من قيود الأغلال والأصفاد، والهمة طريق النور والهدى والرشاد.
ولكن هذا العملاق الشامخ تسرب إليه الضعف والوهن يوم اقتصر الفقهاء على التقليد، ففضلوا المتون والشروح والحواشي، واعتبروا أن الاجتهاد باب مغلق، وطريق دونه خرط قتاد. أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق حبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه.