للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- لم أجد تعليلاً صريحاً للقول بعدم جواز وقف النقود، وكل ما استشففته من مواقفهم هو أن الذي حدث في عصر النبوة والخلافة الراشدة كان وقفاً للأصول الثابتة من أراض وعقارات ولم يحدث وقف للنقود. ثم إن سنة الوقف ومقتضاه هي حبس الأصل وتسبيل الثمرة، ولا يتأتى ذلك في وقف النقود، لأنه لا يستفاد بها فائدة صحيحة شرعاً إلا بإهلاك عينها. ويمكن الرد على ذلك بأنه بفرض اقتصار العمل في صدر الإسلام على وقف الأصول الثابتة فإن ذلك لا ينهض بمفرده ليكون دليلاً على منع ما عداه، والصحيح أن العمل لم يقتصر على ذلك وإن كان هو الغالب، وإلا فهناك وقف خالد رضي الله عنه لأدرعه وعتاده وهي أموال منقولة، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث المتفق عليه، والنقد نوع من الأموال المنقولة. ونحن نسلم بأن سنة الوقف ومقتضاه حبس الأصل وتسبيل الثمرة، لكنا لا نسلم بأن ذلك لا يتأتى في وقف النقود، إن النقود مثلية، ومثل الشيء كهو، ولا تتعين بالتعيين، وبدلها يقوم مقامها تماماً. ومع التسليم بأن الاستفادة الصحيحة شرعاً تتطلب تقليبها فإن ذلك لا يقتضي أبدًا إهلاك عينها وذهابها بالكلية فهي باقية بشكل دائم (١) .

وكأن القائلين بعدم جواز وقفها نظروا إلى شخص يقف بعض نقوده على شخص أو جهة ما فيقوم بدفع هذه النقود إلى هذا الشخص أو تلك الجهة وتنتهي القصة. والحق أن عملاً مثل ذلك لا يعد وقفاً وإنما هو مجرد صدقة عادية، فأين الأصل القائم وأين هي الثمرة المسبلة؟ ولكن ذلك ليس المقصود لدى من قال بوقف النقود، وإنما مقصودهم اعتبار النقد أصلاً قائماً يستغل أو ينتفع به مع بقائه، كما سيتضح في الفقرات التالية، وما الفرق عندئذ بين وقف النقود لاستثمارها وتوزيع عائدها على الموقوف عليه وبين وقف نخلة لتوجيه ثمرتها ومنافعها لجهة ما؟ والمعروف أن النخلة تهرم وتنتهي، ولذلك قالوا: لابد من شراء فسائل وغرسها حتى يظل النخل قائماً مستمراً (٢) ، والتساؤل هو: هل النخل القائم على مر الزمن هو عين النخل الموقوف؟ فلم يجوز هذا ويمنع ذلك؟ مع أن النقود أوغل في المثلية من الأشجار ذات الجنس الواحد، ثم إن وقف النقود لا يخرم بمبدأ التأبيد في الوقف، فهي باستثمارها وتنميتها تظل قائمة موجودة عبر الزمن ربما بدرجة أكبر من دوام الأراضي والعقارات، والعبرة بالإدارة وليس بنوعية المال الموقوف. وسوء الإدارة يزيل الجميع لا فرق بين مال ومال، وهكذا فنحن نرى ما سبق أن رآه فقهاء المسلمين الذين قالوا بجواز وقف النقود، وخاصة أن لهذا النوع من الوقف مزايا ومقومات قد لا يتوفر الكثير منها في الوقف العيني، كما سنرى في الفقرة التالية.


(١) وقد نص العديد من الفقهاء على هذه المعاني، ابن عابدين، مرجع سابق: ٤ / ٣٦٤؛ الدسوقي، مرجع سابق: ٤ / ٧٧.
(٢) هلال الرأي، أحكام الوقف، دار المعارف العثمانية، حيدرآباد، ١٣٣٥ هـ، ص ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>