للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد نص الفقهاء على جواز بيع بعض مال الوقف للإنفاق منه على الجزء الباقي، كما نص الفقهاء على جواز استغلال الجزء للإنفاق منه على الجزء الثاني (١) . وما ذلك إلا لأنه السبيل الوحيد لبقاء الوقف منتفعاً به، ولعل هنا مجال للنظر الفقهي حول القيام باستثمار وتنمية أموال الصندوق الوقفي للإقراض، قياساً على جواز استثمار فائض الغلة واستثمار دار السكنى لتوفير ما تصان به، وقد يكون القصد من وقف النقود إنفاق عائدها على الجهة الموقوف عليها، وهذا يتطلب بالضرورة استثمارها أولاً ثم إنفاق العائد، أو بالأحرى جزء منه على الموقوف عليه، وقد نص الفقهاء القدامى على ذلك أيضاً (٢) .

وهنا نجدنا أمام العديد من صيغ وأساليب الاستثمار التي يمكن استخدامها، طالما أن الواقف لم يحدد صراحة صيغة أو أسلوبا معينا يلتزم به، شريطة أن يكون الأجدى اقتصاديا والأنفع لمقصود وغرض الوقف وهو انتفاع الموقوف عليهم، وطالما أن ذلك متفق والأحكام الشرعية، وإلا أعرض الناظر عن ذلك، واتخذ من الصيغ والأساليب ما يتواءم وهذه المتطلبات.

وأمام الإدارة الوقفية في ذلك العديد والعديد من هذه الصيغ والأدوات، والتي قد تطورت اليوم من خلال تطبيق المصارف الإسلامية، مثل الاستثمارات المباشرة، والتأجير، والمضاربة، والمشاركة، والسلم، وبيع المرابحة، والاستصناع، وشراء الأوراق المالية، وتكوين المحافظ والصناديق الاستثمارية والمشاركة فيها، فالأموال الوقفية شأنها شأن أية أموال يراد استثمارها، وأمامها العديد من الأبواب، شريطة الالتزام الشرعي، حتى لو نص الواقف على غير ذلك، وشريطة الدراسة الجادة لجدوى العمل الاستثماري بما يوفر له أكبر قدر من الحماية من جهة، وأكبر عائد ممكن من جهة أخرى، فمال الوقف كمال اليتيم ومال بيت المال، يبذل في استثمارها من الجهد والعناية أكبر مما يبذل في غيرها، ومن المفضل ألا يغفل كل الإغفال عن المصلحة العامة جرياً وراء المصلحة الاقتصادية الخاصة بالوقف، فالوقف في الأول والأخير عمل خيري، فينبغي أن يكون ذلك المعنى حاضراً في كل خطوات ومراحل العملية الوقفية، على ألا يحمل ذلك غبناً لحقوق الموقوف عليهم، والتي هي المقصود النهائي من عملية الوقف (٣) .

والصورة قد تتضح ملامحها بالمثال التالي: هناك وقف نقدي على مركز طبي أو مدرسة أو جامعة.. إلخ، وأمامنا مشروعان لاستثمار هذه النقود، وبالتالي توجيه عائدها إلى تلك الجهات: المشروع الأول للإسكان الشعبي والمشروع الثاني للإسكان المتوسط أو العالي، الأول يدر عائداً اقتصاديًّا أقل مما يدره الثاني، بينما يفيد الأول فئات فقيرة تشتد حاجتها للسكن، فإلى أين توجه الإدارة الوقفية أموال الوقف؟ الإجابة ليست سهلة، لأن التوجه للمشروع الأول يحقق نفعاً اجتماعيًّا لا يحققه التوجه للمشروع الثاني، لكنه في الوقت نفسه يضيع على الموقوف عليهم عوائد يوفرها لهم المشروع الثاني.

وقد يكون من الميسر للتوجه الصحيح المتميز الدقيق بين الموقوف والموقوف عليه، وبين عملية استثمار الوقف وعملية توزيع عوائد الاستثمار، كذلك الوعي الصحيح بأن مراعاة الموقوف عليهم، وخاصة إذا كانوا فئات محتاجة أو جهات عامة هي في حد ذاتها مصلحة اجتماعية، وقد يساعد ذلك أيضاً قيام الدولة بوضع أولويات للمشروعات التي تقام، وأيضاً قيام صندوق الوقف بتنويع مجالات الاستثمار بما يوفر التوليفة المثلى التي تحقق ما يمكن تحقيقه من منافع ومصالح عامة وخاصة معا.


(١) وقد قالوا: إن العبد المحبس على خدمة شخص نفقته على المحبس عليه (الذخيرة: ٦ / ٣٤١) وهنا النقود محبوسة لخدمة المدينين فكل ما يلزم لبقائها تكون عليهم. انظر الكمال بن الهمام؛ فتح القدير: ٥ / ٤٣٤؛ ابن تيمية، الفتاوى: ٣١/٢١٢؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي: ٤ / ٩٠.
(٢) الماوردي، الحاوي الكبير، مرجع سابق، ٩ / ٣٧٩؛ ابن تيمية، الفتاوى: ٣١ / ٢٣٤ وما بعدها؛ الكمال بن الهمام؛ مرجع سابق: ٥ / ٤٣٢.
(٣) سليمان الطفيل، الوقف كمصدر اقتصادي لتنمية المجتمعات الإسلامية، ندوة (مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية) مكة المكرمة، شوال ١٤٢٠ هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>