للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويظهر لي - والله أعلم - وجاهة اختيار هذا القول؛ لأن للحاكم الشرعي نظراً مصلحيًّا ينبني على النصح لعموم المسلمين فيما يتعلق بمصالحهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن مصلحة الواقف استمرار وقفه، وتعيين جهات خيرية تنتفع بغلته، ويرجع ثواب هذا الانتفاع إلى الواقف بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من محض النصح لأموات المسلمين.

قال في غاية المنتهى (١) : "ومنقطع الابتداء يصرف في الحال لمن بعده، ومنقطع الوسط لمن بعده، ومنقطع الآخر بعد من يجوز الوقف عليه ".

والمحاكم في المملكة تسير وفق الاجتهاد القضائي لكل حال من هذه الأحوال الثلاثة. والوقف من حيث وجوب بذل العناية والاهتمام به لبقاء أصله، وتوزيع غلته كالوصية.

وقد قدم الله تعالى الوصية على الدين، مع أن الدين أولى بالتنفيذ على التركة من الوصية، وذلك إشارة إلى وجوب الاهتمام بها والعناية بتنفيذها، فقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١٢] ، والوقف في معنى الوصية من حيث العناية والاهتمام به، وذلك أن الدين له أهل يطالبون بسداده، والوصية - والوقف في معناها - جانب المطالب بإنفاذها ضعيف لانتفاء مصلحته أو قلتها، فجاء تقديمها في النص الإلهي على الدين إشارة إلى وجوب الاهتمام بها واستشعار المسؤولية لإنفاذها.

مع أن الوصية لا تنفذ إلا بعد سداد الديون من التركة، بخلاف الوقف الناجز فهو نافذ مطلقاً، ولا يعتبر من مشتملات التركة، وفي هذا خلاف بين أهل العلم، والأرجح ما ذكرنا.

وهذا يعني أن مسؤولية الوقف مسؤولية ربانية، ولهذا اتجه أهل العلم إلى أن من أهم مسؤولية الحاكم الشرعي واختصاصاته القضائية إعطاء الأوقاف أولية النظر، والمتابعة والمراقبة، وإسناد القيام بالنظارة عليها إلى من تبرأ الذمة بإسنادها إليه ممن تتوافر فيه الأمانة والديانة والتقوى والصلاح وسلامة النظر والتبصر.

ثم إن مسؤولية الحاكم الشرعي لا تنتهي عند حد إسناد النظارة إلى من هو أهل لها، فإن التصرف في عين الوقف بيعاً وشراءً، وكذا التصرف به تأجيراً لمدة طويلة لا يتم إلا بإذن منه، وقد يحتاج إذنه إلى تصديق من محكمة التمييز.

كل ذلك يعني بذل الاحتياطات الكاملة للحفاظ على الوقف أصلاً، وغلة، وصرفاً على الجهات الخيرية المعينة في وثيقة الوقف استمراراً لجريان الصدقة للواقف، فكل مخالفة، أو مجاوزة، أو تهاون في شؤون الأوقاف فالمسؤولية عند ذلك على الناظر على الوقف، وتمتد المسؤولية إلى الحاكم الشرعي في حالة علمه بذلك، قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: ١٨١] .

والتجاوز في المخالفة في معنى التبديل.

* * *


(١) غاية المنتهى: ٢ / ٢٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>