للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جـ- إن المسوغ الثاني للفريق الذي يرى جواز خلط أموال الودائع في الحسابات الاستثمارية لدى البنوك يستند إلى أن الأحكام المنظمة للمعاملات التي تقوم بها شركات الأموال المعاصرة يجب النظر إليها في إطار جديد، وهذا الإطار هو ما يسمى بالشخصية الاعتبارية التي استحدثتها القوانين الوضعية المعاصرة نتيجة ضخامة عدد الشركاء المؤسسين للشركات في العصر الحالي. ويترتب على هذا الإطار الجديد اختلاف بين الأحكام الخاصة بتلك الشركات والأحكام الخاصة بالشركات الثنائية المستخلصة من الفقه الموروث، فالأحكام الخاصة بالشخصية الاعتبارية للشركات المعاصرة عندهم تخول لهذه الشركات ذمة مالية مستقلة تفصلها تمامًا عن الذمم المالية المتعلقة بالشركاء المتعددين المنشئين لها، مما يعفي هذه الشركات من شرط عدم خلط رؤوس أموال جديدة برأس مال الشركة الأصلي بعد بدء النشاط.

إلا أن هذه المقولة يرد عليها بأنها لم تأخذ في الحسبان حقيقتين مهمتين تدحضان المسوغات التي استند إليها الفريق المجوز لخلط أموال الودائع في الحسابات الاستثمارية، وهاتان الحقيقتان هما:

١- إن الفقهاء عند كلامهم عن الشركة ثنائية الأطراف في الفقه الموروث لم يغفلوا حقيقة أن هذه الشركة سيترتب عليها كيان جديد يختلف عن الكيان الشخصي لكل من الشريكين المكونين لها. وهو الأمر الذي يطلق عليه رجال القانون المعاصرون اسم (الشخصية الاعتبارية) .

ويتضح ذلك جليًّا بالنظر في طريقة كلام الفقهاء القدامى عن الالتزامات الواقعة على كل شريك من الشريكين في الشركة الثنائية سواء كان ذلك تجاه كل منهما أو تجاه الغير. فعلى سبيل المثال يقول العلامة الشافعي أبو ضياء الشبراملسي في حاشيته على الإمام الرملي في شرح المنهاج في طلب تنضيض المال من أحد الشريكين (مالك المال وعامل المضاربة) (وعليه فلو كان المالك اثنين وطلب أحدهما (من العامل) والآخر عدمه فهل يجاب الأول أو الثاني؟ فيه نظر، وينبغي أن يقسم المال عروضًا، عما يخص من طلب العروض يسلم له وما يخص من طلب التنضيض يباع ويسلم له جنس رأس المال) (١) .

ويقول الإمام ابن قدامة: (ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه دارًا ليحرز فيها مال الشركة جاز) (٢) . فتعين بذلك وجود كيان جديد للشركة مستقل بذاته، ومال يخصها. كما يتضح ذلك أيضًا من قول المالكية: إن مقصود الشركة جواز تصرف الشريكين في المالين جميعًا فإذا قضى أحدهما الغريم، برئ، وإن كان غير الذي عامله لأن يدهما كيد رجل واحد (٣) . وهو نفس ما يقر عليه فقهاء الحنابلة والشافعية والحنفية بالنسبة للتصرف في جميع المال (بعد حصول كل من الشريكين على الإذن بذلك من الشريك الآخر) (٤) .

ومن هذا كله يتضح أنه رغم ما أقره الفقهاء من إمكان تعدد الشركاء ومن قيام كيان جديد أطلقوا عليه اسم الشركة، فإن ذلك لم يسوغ لهم إباحة خلط أموال جديدة (ولا حتى أموال الشركاء أنفسهم) بمال الشركة بعد بدء النشاط كما سبق بيانه من قبل وذلك لوجود احتمالات لأكل بعض الناس أموال البعض الآخر، على النحو السابق شرحه، كما لو يسوغ لهم ذلك إلغاء صفة الملكية الخاصة بكل شريك على الحصة التي أسهم بها في رأس المال.


(١) انظر: حاشية أبي ضياء الشبراملسي على نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي: ٥/ ٢٤٠.
(٢) ابن قدامة: المغني: ٥/٤٣.
(٣) انظر: القرافي، الذخيرة: ٨/ ٧٢.
(٤) انظر: الماوردي، الحاوي الكبير: ٨/ ١٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>