للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢٢- أما اشتراط البرء من المرض لاستحقاق الطبيب المقابل، وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (المشارطة على البرء) ، فالأمر فيه محل خلاف:

فيرى ابن حزم أنه (لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلًا، لانه بيد الله، لا بيد أحد، وإنما الطبيب يعالج من مقو للطبيعة بما يقابل الداء، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية الداء، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى) (١) .

ويرى المالكية –في الأصح لديهم – جواز المشارطة على البرء، فيقول الدردير: (كمشارطة طبيب على البرء، فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له، إلا أن يتمم غيره فله بحسب كرائه الأول) (٢) .

على أن المالكية لا يرون في الاشتراط على البرء ما يخرج العقد عن كونه إجارة، فهو مازال كذلك، مثله في هذا مثل كراء السفينة، والمشارطة على الحفر لاستخراج الماء في أرض موات غير معروفة، أو إرسال رسول إلى بلد لتبليغ رسالة أو الإتيان بشيء منها، ففي كل هذه الحالات لا تستحق الأجرة إلا بتمام العمل، فإذا غرقت السفينة –مثلًا- أثناء الطريق أو في آخرها قبل التمكن من إخراج ما فيها فلا كراء لربها (٣) . وإن لم تتم السفينة إبلاغ ما بها إلى المكان المتفق عليه، وأبلغتها سفينة أخرى، فالأول بحسب كرائه.

ويرى فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية أن المشارطة على البرء سائغة، ولكنها تخرج العقد من باب الإجارة لتدخله في باب الجعالة.

وفي ذلك يقول في المجموع: (فأما إن شارطه على البرء، فإن مذهبنا ومذهب أحمد بن حنبل أن يكون ذلك جعالة، فلا يستحق شيئًا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبًا أو بعيدًا) (٤) .

ويقول المرداوي في الإنصاف: (فأما المشارطة على البرء فهي جعالة، لا يستحق شيئًا حتى يوجد البرء وله أحكام الجعالة) ، ثم يقول في باب الجعالة: (لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده فله كذا، لم يصح مطلقًا، على الصحيح من المذهب، قدمه في الرعايتين، والحاوي الصغير، والفائق، وغيرهم واختاره القاضي، وقيل: تصح جعالة، اختاره أبو موسى والمصنف ونقله الزركشي في الإجارة) (٥) .

ويقول القرافي في الذخيرة: قال ابن يونس: قال سحنون: أصل إجارة الطبيب الجعالة فكذلك لا يضرب أجلًا قبل. . . قال اللخمي: ويجوز اشتراط الطبيب من الأجرة ما الغالب أن البرء لا يحصل قبله (٦) .

وقد يشهد لاعتبار الاشتراط على البرء جعالة لا إجارة أن المنفعة فيه لا تتحقق بجزء من العمل، وإنما تتحقق بتمامه (البرء) ، ولأنه يكفي فيه الالتزام من جانب واحد، ولأنه يحتمل الغرر، وتجوز فيه جهالة العمل والمدة، وهي أمور لا تستقيم جميعها مع عقد الإجارة، وإن تواءمت مع عقد الجعالة (٧) .


(١) المحلى، لابن حزم، مرجع سابق: ٨/١٩٦، مسالة رقم ١٣١٠.
(٢) الشرح الصغير، مرجع سابق: ٤/٧٥.
(٣) يعتبر المالكية المشارطة على البرء من الفروع المترددة بين الجعالة والإجارة، ويرجح الكثير منهم اعتبارها إجارة (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، المطبوع على نفقة خادم الحرمين الشريفين: ٣/٨؛ وكتاب الفقه الواضح لفضيلة المرحوم الوالد الشيخ يوسف المنياوي، الطبعة الأولى: ٣/٨٦؛ وشرح الخرشي على خليل، الطبعة العامرة الشرفية، الطبعة الأولى: ٥/٦١) .
(٤) المجموع، مرجع سابق: ٥/٨٢، ٨٣، ١١٣، ١٢٤؛ وفي ذات المعنى الشرواني وابن القاسم، مرجع سابق: ٦/١٦٣.
(٥) الإنصاف، مرجع سابق: ٦/٧٥، ٣٩١؛ المغني: ٦/١٢٣.
(٦) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي:: ٥/٤٢٣.
(٧) في التفرقة بين عقد الإجارة وعقد الجعالة، الدكتور وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، طبعة دار الفكر: ٤/٧٨٦، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، المكتبة التجارية الكبرى: ٤/٦١ – ٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>