ثالثًا: إنه تطبيقًا لمبدأ أن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، فإنه إذا ارتضى الطبيب ألا يطالب بشيء إلا عند البرء والشفاء، فإنه يكون له ما اتفق عليه، فإن منع من الاستمرار في العلاج الذي بدأه، فلم يتحقق الشفاء على يديه، فإنه يستحق المقابل الذي يستحقه مثله، على ألا يزيد هذا المقابل على القدر المتفق عليه، وذلك لأنه ارتضى هذا المقابل أتعابًا له عند تحقق الشفاء، وبالتالي يكون قد ارتضى –من باب أولى- عدم استحقاقه لأكثر منه إذا لم يوفق إلى الشفاء.
رابعًا: إن تكييف المشارطة على البرء بأنها إجارة على عمل لا يستجيب مع طبيعة المعاملة، فهي ليست عقدًا لازمًا لا يفسخ، بل هي علاقة قائمة على الثقة والطمأنينة المتبادلة بين الطبيب والمريض، فإذا فقدت هذه الثقة فلا محل للاستمرار في العلاقة، ولا يرجى الخير من الطبيب إذا عزف عن الاستمرار، كما لا يقبل عرفًا وشرعًا إرغام المريض على الاستمرار في العلاج بما قد يتطلبه من عمليات جراحية وأمثالها.
ومن ناحية أخرى، فإن علاقة العمل تقتضي –بحسب الأصل- تبعية العامل لرب العمل، في مقابل الأجر الذي يتقاضاه، وذلك تأباه طبيعة العلاقة التي تربط الطبيب بمريضه؛ فاستقلال الطبيب في مواجهة المريض شرط أساسي لنجاحه في مهمته (١) . كما أن عدم خضوعه لمريضه واجب لا محيص عنه، إذ إن هذا المريض يجهل –عادة- الأمور الطبية الدقيقة، بل إنه قد يجهل حقيقة الحالة الصحية التي يمر بها.
ثم إن المشارطة على البرء تحمل معنى عدم استحقاق المقابل إلا عند البرء فكأن المريض قال: إذا عالجتني فشفاني الله على يديك كان لك عندي كذا، وهذه صيغة واضحة في معنى الجعالة التي لا تعدو أن تكون التزامًا بعوض معلوم على عمل معين أو مجهول، عسر علمه، ومن ثم فإن ما يقوله الحنابلة والشافعية وبعض المالكية من تكييفها بأنها عقد جعالة، هو مما يتفق مع طبيعتها، هذا فضلًا عن أن ذلك من شأنه أن يجبر ما يعتور هذه المعاملة من غرر وجهالة، لأن المدة التي سوف يقع البرء فيها غير معلومة، ومقدار العمل المتفق عليه غير معلوم، ويداخلها من العناصر ما لا يد فيه للطبيب ولا للمريض.
(١) الدكتور عبد الرشيد مأمون، مرجع سابق، ص ١٠٨ وما بعدها.