ذكرنا فيما سبق أن المالكية يعتبرون جواز الغرر في عقود التبرع والتعاون قاعدة عامة، واستنتجنا من بعض عبارات الإمامية أنهم أيضًا يجيزون ذلك، بل إن تعميمهم لآثار الغرر إلى مطلق المعاوضات فيه نظر؛ لأنهم لا يقبلون القياس كالظاهرية.
وقد رأينا أيضًا أن مجمع الفقه الإسلامي بجدة قد أخذ بهذا الرأي في قراره حول التأمين، ونحن نعتقد أن طبيعة عقد التأمين عمومًا هي طبيعة تعاونية، وهو نفس الرأي الذي تبناه الأستاذ مصطفى الزرقا، ولكن حتى لو تنازلنا عن هذا الرأي، فإننا نجد أن مسألة التأمين الصحي ـ رغم ظاهرها المعاوضي ـ تحمل بشكل أكثر وضوحًا معنى التعاون والتضامن، حتى ولو كان القصد منها الربح التجاري (خصوصًا بعد أن حذفنا من البين مسألة التأمين من المرض نفسه وقصرناه على العلاج) ، ويتأكد هذا الموضوع عندما يتم التعاقد بين مؤسسة لها موظفون ومستشفى يؤمن لهم العلاج اللازم، كما يتأكد أيضًا عندما يتم التعاقد بين المؤسسات الحكومية والمستشفيات الخاصة لتحقيق هذا الغرض.
أما فيما إذا كانت المؤسسات المتعاقدة داخلة كلها تحت الإطار الحكومي العام، فإن العنصر الغرري لا يتصور تأثيره كثيرًا في البين، ولا معنى لتصور النزاع داخل الإطار الواحد.
وهناك نقطة أخرى ربما كان لها دخلها في البين، وهي تؤكد لنا الطبيعة التعاونية لهذا العقد، وهي: أن ننظر للحالة الاجتماعية ككل، فنقارن بين مجتمع تشرع فيه حالة التأمين الصحي حتى من قبل القطاع الخاص، وآخر ينتفي فيه هذا النوع من التأمين، ومن الطبيعي أن المجتمع الأول ينعم بحالة جيدة من التعاون والتضامن بالنسبة للمجتمع الثاني، مما يؤكد لنا هذه الحالة التعاونية بلا ريب.
ولسنا نرى بأسًا في وجود قصد ربحي أو تجاري لدى أحد المتعاقدين للتأثير على تغيير الطبيعة التعاونية للعقد، تمامًا كما في مسألة الاستئجار لقضاء الصلوات مثلاً، فإن نية الحصول على مبلغ الإجارة لا تتنافى مع قصد القربة فيها، كما يقرره العلماء، وعلى هذا ربما قربت مسألة أخذ الأجرة على الواجبات كالمعاجلة والتغسيل والتعليم، بل وكل عمل يحتاج إليه المجتمع في مختلف المجالات العلمية والطبية والاجتماعية باعتبارها من الواجبات الكفائية.