للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكن هل أجاز الفقهاء الاستفادة، في هذه الحال، من عظم إنسان آخر؟ قال في الفتاوى الهندية: لا يجوز الانتفاع بأجزاء الآدمي، قيل: للنجاسة، وقيل: لكرامة الإنسان، وهو الصحيح (١) .وأطلق الشربيني في مغني المحتاج القول بحرمة ذلك فقال:" والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه، لكرامته " (٢) .

أقول: ينبغي أن يكون هذا الاجتهاد خاصاً بالحالات التي لا يتعين فيها الآدمي دون غيره، أما عندما يتعين الآدمي ولا يقوم مقامه جزء آخر من غيره، وكان في ذلك إنقاذ لحياته أو تمتيع بعضو أصيل في جسمه، فلا نشك في أن ضرورة إنقاذ حياة الإنسان أو إعادتها إلى النهج القديم، أرجح في سلم المصالح المعتبرة من مراعاة كرامة الإنسان بعد موته.

هذه خلاصة لما انتهى إليه الفقهاء في هذه المسألة، في العهود الغابرة. ومن الواضح أنها تبرز مدى مسايرة الفقه الإسلامي لحركة الطب وتقدمه آنذاك، ومدى تناسق الفقه معه في السعي إلى خدمة الإنسان وتحقيق مصالحه.

غير أن الطب، بلغ اليوم شأواً بعيداً، بالنسبة إلى ما كان عليه بالأمس، فقد تجاوز مرحلة تثبيت أنف أو أنملة أو سن اصطناعي، أو وصل الجسم بعظم إنسان أو حيوان آخر، تجاوزه إلى زرع كلية مكان أخرى، وتركيب قلب مكان قلب آخر، وإلى استبدال عين سليمة بأخرى تالفة. وهو بهذا التقدم الذي بلغه اليوم، إنما يعيد الأمل إلى الإنسان الذي استيأس من حياته، ويضع الإنسان في الوقت ذاته أمام أسمى امتحانات التعاون والإيثار.

ثم إن هذا التقدم العلمي في نطاق الطب، يصور لنا بعضاً من الفروق بين عمل الطب في هذا المضمار بالأمس وعمله في اليوم.

وأبرز هذه الفروق، أن تلك الإنجازات الطبية القديمة، لم تكن تعدو عملاً تزيينيا أو سداً شكلياً لنقص في البدن، وليس له من فائدة إلا ضمن حدود الشكل والمظهر. فكان أثره المصلحي محصوراً في نطاق مرتبة التحسينات لمصلحة الحياة. أما هذا الذي وصل إليه الطب اليوم، فهو يرقى إلى درجة استعادة مقومات الحياة بعد فقدها أو بعد الإشراف على فقدها، فهو يدخل بذلك في إنجاز أبرز المقومات الضرورية لمصلحة الحياة.

ومما لا ريب فيه أن هذا الفرق في مضمار العمل الطبي في هذا المجال، ما بين الأمس واليوم، له تأثيره ودوره الكبير في إبراز كثير من وجوه الاختلاف في الأحكام الفقهية لهذه المسألة ما بين الأمس واليوم، وهذا ما سنشرع في بيانه وتفصيل القول فيه بعون الله وتوفيقه.


(١) الفتاوى الهندية: ٥/ ٣٥٤
(٢) مغني المحتاج: ١/ ١٩١

<<  <  ج: ص:  >  >>