وقد يقول أحدنا: ولكن ما لا ريب فيه أن الإنسان لا يملك أن يتلف شيئاً من أطرافه أو أن يعطب شيئاً من جسمه، قل العطب أو كثر، أفليس ذلك دليلاً على أن لا حق للإنسان في شيء من أطرافه وأعضائه، وأنه ـ كحق الحياة ـ عائد إلى الله عز وجل؟ والجواب أن سائر حقوق العباد مقيدة بنظام الشرع، نظراً إلى أن جذور هذه الحقوق كلها، إنما هي ملك لله وحده. فالمالك هو الله، والعبد مخول بالتصرف في كل ما جعله الله حقاً له، لا بشكل كيفي، وعلى النحو الذي يشاء، بل طبق النظم والضوابط التي شرعها الله له ... وهذه الضوابط والنظم لا تعدو في جملتها أن تكون توجيهاً للعبد إلى الطريق الأمثل لرعاية المصالح الإنسانية، المتمثلة في المقاصد الكلية التي سبق بيانها، وتحذيراً من الانزلاق في مهاوي الضرر والفساد بين العباد (١) .
ومن هنا، حرم الله تبذير الأموال وإتلافها وإن صدر ذلك من مالكها الذي هو صاحب الحق في التصرف بها. وبهذا المعنى ذاته يحرم على الإنسان أن يعرض شيئاً من جسده للضرر والفساد، رغبة في الضرر ذاته، أي دون أن يحمله على اقتحام ذلك تحقيق مصلحة مشروعة ضمن سلم الأولويات المقررة.
فإذا تبين لنا معنى هذه القاعدة، وظهر لنا انطباقها على علاقة الإنسان بأطرافه ودمه وأجزاء جسده، لا من حيث المحافظة بها على حياته، بل من حيث تصرفه بها ضمن حدود الوقاية التامة لها ـ فإن القاعدة الثانية تترتب عليها لزوماً. وهي:(كل ما ثبت للإنسان حق التصرف فيه، كان له حق الإيثار به) .
ومن مقتضى ذلك أن يملك الإنسان إيثار غيره بشيء من دمه أو بأي من أجزاء جسده، ما لم يستلزم ذلك ـ ولو على وجه الاحتمال البعيد ـ هلاكه.
وواضح أن معنى الإيثار قائم على إسقاط المؤثر حظ نفسه، وتقبل المضرة اللاحقة به، رعاية لمصلحة أخيه. فهو وإن كان في الظاهر سعياً إلى مفسدة ليس من شأن الشريعة الإسلامية أن تأذن بالاتجاه إليها، إلا أنها أساس وسبب لمصلحة ضرورة تتحقق للغير، بالإضافة إلى ما يتوج هذا العمل به، من الخلق النبيل المتمثل في ترك المؤثر حظ نفسه رعاية لحظ غيره، اعتماداً على يقينه بالله وأملا في مرضاته والعوض الذي سيكرمه الله به. فهو، وإن كان في الظاهر مضرة وفساداً، إلا أنه منطو على مصلحة هامة في طريق بناء الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، ولا ريب أنها أجل بكثير من حجم المفسدة التي قد تنجم عنه.
(١) انظر ما ذكره الشاطبي في المسألة التاسعة ص ٣٧٧ من الجزء الثاني من الموافقات. فقد جاء بالكلام جامع في هذا الموضوع.