ولكن ما الحكم إن كانت الضرورة ليست إنقاذاًَ لحياة المستفيد، وإنما هي استبدال طرف أو عضو سليم عامل، بعضو تالف من جسده؟ وذلك كأن يؤثر الرجل صاحبه بعينه، فتؤخذ منه وتزرع في مكان العين التالفة من وجه صاحبه؟
مقتضى القواعد والأدلة التي اعتمدنا عليها في الحكم بجواز الحالة الأولى، أن تجوز هذه الحالة الثانية أيضاً، ولقد أمعنت النظر والتفكير، فلم أجد في هذه الحالة الثانية أي فارق عن الأولى يستدعي الحكم بالحظر. والله أعلم.
ومها يكن، فإن جواز الإقدام على هذا الأمر منوط بالضرورة، سواء كانت ضرورة إنقاذ حياة، أو ضرورة إحياء عضو تالف. ولكي نزيد بيان هذه الضرورة ضبطاً، نذكر بالمحترزات التالية:
أ - لا يجوز التنازل، إن ثبت أن عضواً اصطناعياً يمكن أن يقوم مقام العضو الطبيعي في إنقاذ حياة المريض، أو كان احتياجه إلى ذلك العضو غير ضروري، أو كانت استفادته منه شكلية.
ب - لا يجوز التنازل، إن كان على وجه الإهدار والإتلاف، كأن يمكن غيره من إتلاف أحد من أعضائه أو من إلحاق أي ضرر بجسمه، دون أي ضرورة تستلزم ذلك.
ج- لا يجوز التنازل، إن كان لمصلحة ذي حياة غير محترمة، كمرتد أصر على الردة واستوجب القتل، أو زان محصن قضى القاضي في حقه بالرجم.
وسبب حرمة الإيثار في هذه الحالات الثلاث أن تحمل المؤثر للمضرة مخل في كل منها بالمقصود الشرعي. فلا يعد التنازل فيها إسقاطاً للحظ الشخصي في سبيل الغير، على نحو ما تم تأصيله للمعنى الفقهي في الإيثار.
وبملاحظة هذه المحترزات يزول وهم التناقض الذي قد يتصوره القارئ لكلام الشاطبي، إذ عاد بعد أن أصل قاعدة الإيثار وأيدها بالأدلة المختلفة، فأوضح أن حق العبد وإن كان ثابتاً له في حياته وكمال جسمه وبقاء ماله في يده، فإنه لا يجوز له أن يسلط يد الغير عليه بالإتلاف أو الإضرار (١) .
ذلك لأن عدم جواز التسليط هنا، إنما هو بسبب افتقاره إلى الشروط التي لا بد من توافرها لتحقق معنى الإيثار، فكلامه في المرة الأولى والثانية منسجم مترابط.
ويلاحظ أن الشاطبي هنا ساوى في الحرمة بين تسليط الرجل يد الغير على جسمه وعلى ماله، ليعلم أن شروط الإيثار إن لم تتوافر، فالتسليط عندئذ يصبح محرماً لا على الجسم فقط، بل على المال أيضاً، وليعلم أن شروطه إن تمت كان تمكين الغير إيثاراً مبرراً مثاباً عليه بالنسبة لكل من الجسم والمال معاً.