أما الأطباء، فهم يعتمدون اليوم، بالإضافة إلى الأدلة الشرعية التي هي محل اتفاق، على ما يسمونه بموت الدماغ! ... وهي حالة دماغية تبعث على اليقين عند الأطباء بانحدار حالة المريض إلى الموت. بمعنى انقطاع أمل الحياة عنه انقطاعاً تاماً في يقينهم العلمي، مع احتمال استمرار لدقات القلب وحرارة أو حركة في النبض.
بيد أن موت الدماغ هذا، لا يعد، وحده، في ميزان الشريعة الإسلامية، دليلاً قاطعاً على حلول الموت فعلاً، بل هو في أكثر الأحيان نذير موت محقق حسب المقاييس الطبية المجمع عليها. إلا أنه ليس نذيراً قطعياً بالموت في حكم الشريعة، بل العقيدة الإسلامية، ذلك لأن هذه الحالة، وإن كان من شأنها أن تورث الطبيب يقيناً تاماً بأنها حالة موت، وبأن المسألة عندئذ لا تعدو أن تكون مسألة وقت يتمثل في بضع دقائق ويسكن القلب بعدها بيقين ـ إلا أن هذا اليقين بحد ذاته ليس يقيناً علمياً لدى التأمل والتحقيق، وإنما هو طمأنينة نفسية منبعثة من كثرة التجارب المتكررة التي لا لم تشذ، وهي التي يسميها كثير من العلماء، ومنهم الغزالي (اليقين التدريبي)(١) .
وسبب عدم الاعتبار بهذا الدليل الطبي، من قبل الشريعة الإسلامية سببان اثنان: أولهما: أن أحكام الموت، أيا كانت، إنما تترتب على وقوعه الفعلي التام، لا على توقعاته مهما كانت يقينية جازمة.
ثانيهما: أن هذه الدلالات أو التوقعات، مهما استندت إلى اليقين العلمي، فإن انتعاش المريض وتوجهه مرة أخرى إلى الحياة ليس مستحيلاً عقلياً، ومن ثم فليس مستحيلاَ شرعياً ... ذلك لأن الموت الحقيقي التام لم ينزل به بعد، ومقدمات الموت وأسبابه التي لم تشذ قط، ليست أسباباً موجبة بطبعها، وإنما بجعل الله إياها علامات على قربه. ولله أن يبطل دلالتها ويلغي سببيتها للموت عندما يشاء. ومن ثم فإن قرار الموت بناء على مجرد هذا الذي يسمونه الموت الدماغي لا يرقى إلى يقين علمي جازم بأن الروح قد فارقت أو ستفارق البدن، كما هو الشأن في الموت الحقيقي التام المصطلح عليه لغة وشرعاً، هذا بالإضافة إلى أنه مستند قاعدة (استصحاب الأصل) في الحكم باستمرار الحياة، أقوى من مستند الدلالة الطبية على الموت أو قرب حلوله، في الحكم بطروء الموت.