ولعل انطباق هذه القاعدة على موضوعنا في هذه الحال، يعد دليلاً آخر على ضعف ومرجوحية قول الفقهاء الذين أطلقوا القول بحرمة الاستفادة من جسم الميت، وهم الحنفية والشافعية، مستدلين بالكرامة الإنسانية التي ميز الله بها الإنسان (وقد مرت النصوص التي نقلناها عنهم في ذلك ص: ١٩٢. ذلك لأنه قد ثبت ثبوتاً جلياً بأن رعاية هذه الكرامة حق للإنسان فهو المدافع عنها والمتصرف بها في حياته، ومن ثم فإن له حق الإيثار بها، كما مر بيانه مدعوماً بالأدلة والنقول. وإذا تقرر أنها حق للعبد، فلا مناص من القول بأنها تورث بعد موته، وإن حق التصرف بها يؤول إلى ورثته بحكم أن هذا الحق قد آل إليهم، فلهم عندئذ أن يسمحوا أو أن لا يسمحوا بالاستفادة من جسم ميتهم لإنقاذ الغير.
ويبعد أن يكون أولئك الفقهاء غافلين عن هذا المستند الجلي الذي لا نعلم خلافاً فيه، ولذا فالرجح أنهم أرادوا بما أطلقوه من المنع الاستفادة التي لا تلجئ إليها ضرورة، كأن تكون في حدود التجميل الشكلي للمستفيد، ويؤكد هذا أن الطب في عصورهم لم يكن يملك زرع عضو في جسم الإنسان لأكثر من الزينة وإزالة مظهر التشوه فيه.
ونعود إلى مسألتنا فنقول: هذا إن لم يتعلق حق عام بجسد الميت خصوصاً، أو على سبيل الفرض الكفائي الشامل له ولغيره عموماً. فإن الأمر في هذه الحالة لا يتوقف على إجازة الولي وموافقته.
مثال الحالة الأولى، وهي تعلق حق عام بجسد ميت بخصوصه، أن يموت الشخص في ظروف غامضة أو يرى مقتولاً، وتيقن القاضي أو غلب على ظنه أن تشريح الجثة من قبل الطبيب الشرعي من شأنه أن يكشف عن الجريمة التي ربما تكون هي التي أودت بحياته، ومن ثم فإن ظهور الجريمة سيكون موصلاً إلى معرفة القاتل: فلقد تعلق حق عام ـ هو حق العدالة ـ بجسد هذا الميت بخصوصه، وإنما تأخذ العدالة هنا مجراها وحقها بإخضاع الجثة للتشريح.
ومثال الحالة الثانية توقف الدراية الصحيحة بالطب أو الطب الجراحي في البلدة، على تشريح بعض الجثث لإجراء تجارب وتطبيقات عملية عليها، ابتغاء الحصول على الخبرة الكافية التي تخول الأطباء حق إجراء العمليات الجراحية للمرضى مع افتراض أن استخدام أي من الحيوانات غير الإنسان لا يحقق الغاية المطلوبة. فالحق هنا متعلق بالقدر الكافي من الجثث لا على التعيين.