الحالة الثانية: وهي تدخل في جملة الأمثلة الكثيرة للفروض الكفائية، وبيان ذلك أن توفير القدر الضروري من الأطباء في المجتمع الإسلامي فرض على مجموع المسلمين بالاتفاق، بحيث لو أنهم أعرضوا عن النهوض بهذا الواجب أثموا جميعاً. ومن المعلوم أن كل ما يتوقف عليه تحقيق الواجب يندرج معه في حكم الوجوب، فيصبح هو الآخر واجباً، تطبيقاً لقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعلى هذان فإن توقف تحصيل القدر الكافي من الخبرة الطبية الواجب تحصيلها على إجراء تجارب عملية على بعض الجثث في نطاق الجراحة الطبية، كان تيسير السبيل إلى ذلك واجباً على مجموع المسلمين، شأنه كشأن سائر الفروض الكفائية المختلفة.
ولكن كيف، وعلى أي أساس، يتم اختيار الجثث التي تجرى عليها هذه التجارب العلمية؟
والجواب أنه يجب قبل كل شيء التقييد في السعي إلى تحقيق هذه الاستفادة بأدنى حدود الضرورة، دون أن توسع عن هذا الحد. ذلك لأن الضرورات يجب أن تقدر بقدرها لاسيما في مثل هذه المسألة، ولعل الواقع الذي يجري اليوم في كثير من البلاد العربية لا يخضع من قريب أو بعيد لهذا الضابط.
وفي نطاق الالتزام بحدود الضرورة هذه نقول: لا بد أن يتم قبل كل شيء الإعلان عن الحاجة الماسة إلى العدد المطلوب من الجثث لهذا الأمر، فإن تقدم من أولياء الموتى من يكفي لتغطية الحاجة، بالسماح للاستفادة من موتاهم، فذاك
وإلا فإن السبيل ينحصر ـ والحالة هذه ـ في إحدى طريقتين:
الطريقة الأولى: الاستفادة من جثث أولئك الذين يؤول أمر تجهيزهم ودفنهم إلى الولي العام مما لا يوجد لهم ورثة من الأقارب أو ذوي الأرحام. ذلك لأن حق النظر في هذه الجثث إنما يؤول بالإرث وإلى الولي العام كما قد بيناه من قبل. ومن ثم فهو يملك أن يقرر ما يشاء ضمن حدود المصلحة الضرورية التي لا تتجاوزها، ولا ترد هنا قاعدة: تصرف الولي منوط بالمصلحة لوليه، لأن المسألة هنا ليست ترديداً بين مصلحتين متساويتين للميت وللمجتمع وإنما هي ترديد بين مصلحة تحسينية للميت ومصلحة ضرورية لعموم المجتمع، فالمسألة إذن بمعزل عن هذه القاعدة.