للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- وأما إيجابها على العاقلة ففيه رأيان:

الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب على العاقلة أيضاً، وذلك لما روي عن عمر أنه قال: (العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة) رواه الدارقطني، وحكى أحمد عن ابن عباس مثله.

وقال الزهري: (مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد أن يشاؤوا) رواه عنه مالك في الموطأ.

وهذه الآثار تدل بعمومها على أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية الجناية عمداً، فيندرج تحت مدلولها جناية الإنسان على نفسه عمداً، أو على غيره ... ولأنه لا عذر للقاتل في القتل العمد، وإذا لم يكن له عذر فإنه لا يستحق التخفيف، والعاقلة إنما تحمل عن الجانبي ما يستدعي التخفيف عنه؛ لأنها تتحمل عنه مواساة ومعاونة وتآزراً معه فيما وقع منه خطأ ودون قصد، أما ما كان عمداً فإنه لا يتلاءم مع المعنى الذي يهدف إليه المشرع من وراء معنى العاقلة وما تتحمله.

الرأي الثاني: يرى الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق (كما نقله الشوكاني) (١) أن جناية العمد على نفس الجاني مضمونه على عاقلته.

وهذا الرأي لا يوافق الآثار المروية آنفاً، كما لا يساير أيضاً الحكمة التي شرع من أجلها إيجاب الدية على العاقلة، وهي أنها لمساعدة الإنسان الذي ارتكب جناية خطأ في حق العباد، إذ إيجاب كل الدية عليه فيه عدم اعتداد بعذره، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) كما يعارض الأصل القاضي بألا يتحمل الإنسان جرم غيره، قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (٢) .

وقال جل شأنه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (٣) . هذا هو الأصل، والاستثناء من هذا الأصل لا يكون إلا بدليل، والدليل وجد بشأن القتل الخطأ دون العمد. وهذا يرجح عدم إيجاب هذا النوع من الدية على العاقلة. كما لا يجب على الجاني، أي في ماله، كما ذكرنا آنفاً.

وأما الكفارة (٤) فقد اختلف الفقهاء في إيجابها على من قتل نفسه عمداً، فيرى جمهور الفقهاء أنها لا تجب، وبخاصة من يرون عدم إيجاب الكفارة في قتل الغير عمداً، وهم (الحنفية والحنابلة والزيدية، والثوري، وأبو ثور) للأدلة التي سبق النص عليها، ويرى الشافعية إيجاب الكفارة في القتل العمد أو شبهه أو الخطأ، سواء قتل نفسه أو غيره، فقد جاء في مغني المحتاج: (وتجب الكفارة بقتل المسلم ولو بدار الحرب، وذمي وجنين، وعبد نفسه، وبقتل نفسه؛ لأنه قتل نفساً معصومة، فتجب فيه كفارة لحق الله تعالى، فتخرج من تركته، أما إذا لم تكن نفسه معصومة بأن كانت مهدرة، فينبغي كما قال الزركشي، ألا تجب، وفي قتل نفسه وجه: أنه لا يجب لها الكفارة كما لا يجب ضمانها بالمال) .


(١) نيل الأوطار: جـ٧ ص٨٥
(٢) الآية ١٦٤ من سورة الأنعام، ١٥ من سورة الإسراء، ٢٨ من سورة فاطر، ٧ من سورة الزمر، ٣٨ من سورة النجم.
(٣) الآية ٣٨ من سورة المدثر.
(٤) الكفارة هي: ما أوجب الشرع فعله بسبب حنث في يمين أو قتل أو ظهار..، وهي عقوبة فيها معنى العبادة شرعت تكفيراًَ للذنب، ومحواً للجرم، وتقرباً إلى الله تعالى، وشرعت في جريمة القتل ... لا في ما دون القتل، وهي عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فإطعام ستين مسكيناً بالآية ٩٢ من سورة النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>