إذا جنى الإنسان على نفسه جناية شبه عمد، فإنه يلزمنا أن نذكر بعض الأمثلة التي أوردها الفقهاء لمثل هذا القتل، ثم نتبعها ببيان ما يجب فيه من دية أو كفارة، أما الأولى فمن صوره:(إمساك الحية مع الظن أنها لا تقتل، أو أن يأكل كثيراً حتى يبشم، أو المشي على الحبال في الهواء، والجري في المواضع البعيدة كما يفعله أرباب البطالة والشطارة (كل ذلك يعتبر قتلاً شبه عمد إذا لم يقصد بشيء من ذلك قتل نفسه) ؛ لأن هذه الأفعال تقتل غالباً، ويمكن أن يقاس على ذلك كل ما يغلب على الظن الهلاك منه. وأما ما يجب في هذه الجناية من عقوبة، فإنها تدور بين الدية والكفارة، فأما الدية، فقد اختلف الفقهاء في إيجابها.
فيرى البعض إيجابها على العاقلة (في أي الشافعية (غير المشهور) ورأي للحنابلة) معتبرين أن هذه الجناية تساوي جناية الإنسان على غيره خطأ أو شبه عمد، فكما وجبت على العاقلة دية قاتل غيره خطأ أو شبه عمد فكذلك تجب هنا في الحالتين.
ويرى جمهور الفقهاء أنه لا تجب الدية في هذه الجناية؛ لأن لا عذر له في اقترافه الفعل الموجب لها، وإذا لم يكن معذوراً، فإنه يشبه العمد المحض، والعمد المحض لا تجب فيه الدية فكذلك هنا. وهو رأي الحنفية والمالكية والشافعية (المشهور) والحنابلة.
والناظر إلى هذين الرأيين على ضوء التطور الصناعي في هذا العصر يجد أن كثيراً من الناس يباشرون بعض الأعمال التي تكتنفها بعض المخاطر: كعمال المناجم، ومصانع الحديد والصلب، وما شاكل ذلك من الصناعات والأعمال، طلباً لرزقهم وسداً لحاجتهم، وتنمية لاقتصاد دولتهم.
وقد يترتب على مباشرتهم لهذه الأعمال ذهاب أرواحهم أو أعضائهم أو حدوث أضرار جسمانية فما الموقف من هؤلاء في ظل الفقه الإسلامي؟
إنني أرى أن هذا العمل الذي يقوم به العامل والذي يحتاج إليه الفرد والدولة لا بد من أن يكون محاطاً ببعض الضمانات الكفيلة بسد الثغرات التي تنتج عن استمرار العمل والإنتاج، وهذه الضمانات هي إيجاب الدية لمن قتل منهم أثناء تأديته عمله، وتكون هذه الدية على العاقلة؛ لأن قتل شبه عمد، إذ العمل قد يؤدي إلى القتل، والقتل غير مقصود، وفي شبه العمد الدية على العاقلة فكذلك هنا.
فإن لم تكن له عاقلة كانت ديته من بيت المال، ولا يمكن قياس هذا القتل على القتل العمد، حتى لا تجب الدية على العاقلة؛ لأن العمد أن يقصد الفعل ... ويقصد به القتل، ويمكن التوسع في مدلول العاقلة في الفقه الإسلامي، من العصبة إلى المحلة، إلى اعتبار كل العاملين في مصنع من المصانع عاقلة، كل منهم يعقل عن الآخر إذا ما توافرت شروط العاقلة فيهم وفي كل فرد منهم.
وأما إيجاب الكفارة فيرى بعض الفقهاء (الحنابلة) إيجابها في ماله. وقد يستدل لهذا الرأي بأن القتل هنا قد وقع خطأ؛ لأنه لم يرد قتل نفسه، والله تعالى يقول:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وهو قد وقع قتله لنفسه خطأ، بينما يرى جمهور الفقهاء عدم إيجابها عليه؛ وذلك لانعدام خطابه بها بسبب موته، وإذا انعدم خطاب الشرع له بها، بسبب الموت، لم تجب عليه كسائر الأحكام.