وهكذا تبين أن للإنسان ولاية إسقاط العقوبة عن الجاني حال الاعتداء على عضو من أعضائه، حتى على حياته بالكلية، كمن جرح إنساناً فعفا المجروح عن الجاني، وكذلك شأن الورثة لهم حق العفو عن القاتل كما أسلفنا ... ولكن هل الإنسان حق التبرع بعضو من أعضائه أو الإيصاء بها، فتنزع منه بعد وفاته..؟
ولنعد بالمسألة إلى أصول لها ثابتة ومسائل تقربنا من تقرير الحكم المناسب للمسألة.
أولاً: الرضاع، معلوم أن اللبن هو جزء الأم ترضعه أولادها وغيرهم، وذلك مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، والمسألة واضحة ... ولكن الفقهاء ذكروا أنه لا يجوز بيع لبن المرأة تكريماً لبني آدم.. وعليه الإجماع، قال ابن حزم:(ولا يصح بيع شيء أخذ من حي كلبن المرأة وشعور بني آدم) : اهـ. مراتب الإجماع ١/٨٤.
مسألة أخرى: وهي التبرع بالدم، ولم ينقل خلاف بين العلماء على جوازه، ولئن كان اللبن تفرزه غدة معينة في الجسم وانفصاله لا يؤثر في البدن ... لكن الدم بخلافه؛ حيث إن فقده بالكلية يفضي إلى الهلاك ... ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء بتحريم التبرع بالدم بحال من الأحوال، وتعويضه في الجسم يستوجب بعض الوقت.
وهكذا يصل بنا الحديث إلى معالجة هذا الموضوع على ضوء القواعد الفقهية كما ذكرنا في مطلع البحث. وهذه القاعدة تعرف (بجلب المصالح ودرء المفاسد) .
ولا يخلو أي تصرف يقوم به الإنسان لتحقيق مصلحة ما إلا بمفسدة.. وذلك أن شرب الماء مصلحة لحياة البدن، وفي ذلك استهلاك للماء ... وكذلك الشأن في الطعام واللباس وذبح الحيوان ... بل ومشروعية الجهاد في سبيل الله ... وكذلك مشروعية القصاص، والذي من شأنه قتل الجاني أو بتر عضو من أعضائه؛ كقطع يد أو رجل، وعلى الرغم من ذلك وصف تعالى هذا التصرف بالحياة. قال تعالى سبحانه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: ١٧٩] وفقهاء المسلمين قالوا في هذا المجال: (جلب المصالح مقدم على درء المفاسد) .