وأمثال هذه الضريبة هي التي ستغني صندوق التضامن، أما ما بأيدي الأفراد فالله سبحانه وتعالى حين ذكر الأصناف الثمانية رتبها طبقا لأولويات الاستحقاق، ولئن كانت الواو عند أغلب النحاة لا تفيد الترتيب، فإن النسق القرآني يرتفع على اعتبار النحاة واللغويين، فالله سبحانه وتعالى حين يقدم شيئا بالذكر لا يقدمه اعتباطا، وإنما يقدمه لمعنى في ذاته، والله سبحانه وتعالى حصر الصدقات في الأصناف الثمانية، ليس ليخرج ما قد يبلغ إليه الاجتهاد من اعتباره داخلا في تلك الأصناف، وإنما ليخرج الأغنياء. هنالك الحصر فعلا، لكنه حصر يؤوله ما قبله، الذين يلمزون المطوعين من المسلمين في الصدقات {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ... } . التوبة: ٥٨، ٥٩.
فالحصر هنا له وجهة معينة هي إخراج الأغنياء، أما قضية في سبيل الله فشيء آخر، قال الإمام مالك رحمه الله قولته تلك، وهو ككل الأئمة موقر ما يقول أكبر توقير، ولكنه ليس بالمقدس، فهو نفسه يقول: ما من عالم إلا وفي علمه مأخوذ ومتروك، إلا صاحب هذا القبر. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين قيل له عن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه: إنه امتنع من أداء الصدقة، قال له ما معناه: إنه أوقف كل ما يملك، إنه أوقف عتاده في سبيل الله، وفي سبيل الله لا يعني المجاهدين، كما يظن البعض، وإنما يعني كل ما يؤدي إلى الجهاد أو يهيئ له، ومن ذلك إنشاء العتاد، ومن ذلك تقوية اقتصاد الأمة لئلا تقع تحت نفوذ اقتصاد الأمم الأخرى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . من قوة بالتنكير، وللتنكير دلالته في القرآن؛ فمن ذلك كل ما من شأنه حماية قوة المسلمين وإنماؤها وإقرار هيبتهم وردع المتربصين بهم، يمكن أن يعتبر في سبيل الله، لكن لا يصار إلى إنفاق الزكاة في هذه المجالات إنفاق الزكاة كلها، إلا بعد أن ينفق على الجهات التي سبق ذكرها على (في سبيل الله) ، وهنا يأتي دور قوله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} . ثم قال:{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} . البقرة: ١٧٧.
فهنالك إذن ما أشار إليه أحد الإخوة من قبل من حديث فاطمة بنت قيس الذي كان يفتي به عامر الشعبي، من أن في المال حقا سوى الزكاة، وحتى نفي ابن عمر لأن يكون في المال حق سوى الزكاة لم يكن نفيا لوجود الحق في ذاته، وإنما كان نفيا لأن يكون هناك حق ثابت يتعين على الإنسان بطريقة دورية إلا الزكاة. أما أن في المال حقا سوى الزكاة عندما يتعين على المسلمين أن يتفقوا، فذلك ما لسنا بحاجة إلى البحث فيه إلى اجتهاد وإجماع، فهو نص قرآني صريح بصريح هذه الآية وبصريح:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} التوبة ١٠٣. وليست تزكيهم بمعنى الزكاة، وليس صدقة بمعنى الزكاة كما وهم بعض المفسرين. وقد أوضحت ذلك كله في البحث الذي أعددته لموضوع انتزاع الملك للمصلحة العامة.