ولعل من الأمثلة البليغة على ذلك شعب فلسطين، فإن الصداع الأكبر في الدماغ الإسرائيلي الآن ليس ما حولها من دول عربية وجيوش عربية مجتمعة أو منفردة وإنما هو التفاوت الكبير في معدل الإنجاب بين السكان العرب والسكان اليهود، الذي إن استمر أفضى – لا محالة – إلى أن يجد اليهود أنفسهم هناك بعد بضعة أجيال أقلية مغلوبة، فهل من المقبول أن نقيم حملة بين نساء العرب لتهويل مخاطر الإنجاب وتزيين مزايا التحديد، معتمدين على أن الحكم الشرعي أن منع الحمل حلال؟ إن الأمة التي فقدت كل شيء إلا عدد أفرادها لا يجوز لها شرعا في اعتقادي أن تفرط في هذه الميزة الباقية، وليست فلسطين هي المثال الوحيد للحرب الديموغرافية بما يعمد إليه اليهود من هدم القرى ومصادرة المزارع والتهجير بالرغب والرهب والإفقار المنظم المدروس، وأعلم بالاطلاع الشخصي أن هذه الحرب الديموغرافية دائرة الرحى، منذ زمن في أكثر من بلد من بلاد الشرق الأوسط دونما تسمية حتى لا يظن بنا إشعال فتنة طائفية.
ومما أذكر في مطالع حياتي الجامعية في بلدي أن العلاقات ساءت بيننا وبين دولة غربية كبرى وانقطعت الصلات حتى نبه علينا بألا ندخل المكتبة التابعة لوحدتهم الطبية إلا بإذن من مجلس الوزراء، وكانت هي المكتبة الوحيدة التي تتيح لنا الاطلاع على المجلات والدوريات الطبية العالمية التي أقفرت منها بلادنا في تلك الفترة نظرا لقيود العملة، وطالت القطيعة كل شيء إلا شيئا واحدا هو تمويل أبحاث تحديد النسل في بلادنا من قبل تلك الدولة العظمى، فهذه لم تنقطع! ظاهرة في الواقع أوحت لي وللكثيرين غيري بسوء الظن، حتى بت أعتقد أن مشكلة الانفجار السكاني وقصور موارد الأرض إزاء تفاقم تعداد سكانها إنما تمثل جانبا من الحقيقة لا الحقيقة كلها، وإلا فكيف نفسر أن بعض الدول الكبرى لا تتورع عن إحراق الفائض من حاصلاتها الغذائية أو إلقائه في البحر حتى لا تهبط أسعاره؟ وفي عالمنا الذي أصابته المجاعات وأودت بحياة مئات الألوف نرى فائض المحاصيل يستخدم كسلعة استراتيجية للضغط السياسي ولا يستخدم منه في وجوه البر إلا نزر يسير عن طريق هيئات خيرية أو تبشيرية لها هي الأخرى أهداف ومقاصد.