للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما قلنا مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم، لا من حيث الخروج من الإحليل، لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده، بل من الزوجين جميعا.. وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول في الوجود الحكمي في العقود، فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض والفسخ، ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعا وفسخا وقطعا، وكما أن النطفة في الفضاء لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة أو دمها، فهذا هو القياس الجلي.

ثم يتساءل الغزالي فيقول "فإن قلت يكون العزل مكروها، من حيث إنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة فيها شيء من شوائب الشرك الخفي.

فأقول: النيات الباعثة على العزل خمس:

الأولى في السراري: وهو حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق (١) ، وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق، ودفع أسبابه ليس بمنهي عنه.

الثانية: استبقاء جمال المرأة وسمنها لدوام التمتع واستبقاء حياتها، خوفا من خطر الطلق، وهذا أيضا ليس منهيا عنه.

الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز عن الحاجة إلى التعب في الكسب، ودخول مداخل السوء، وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج معين على الدين، نعم: الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله، حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (٢) ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب، وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضا للتوكل، لا نقول إنه منهي عنه.

الرابعة: الخوف من الأولاد الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة، كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث، فهذه نية فاسدة، لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع أثم بها، لا بترك النكاح والوطء (٣) فكذا في العزل والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد، وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل، فكانت تتشبه بالرجال، ولا ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح.


(١) لأن السرية إذا ولدت من سيدها صارت أم ولد، فلا تباع ولا تشترى، وتصبح حرة بعد موته.
(٢) الآية ٦ من سورة هود
(٣) لعله أراد ترك النكاح والوطء بعد الزواج

<<  <  ج: ص:  >  >>