هنالك ما يسمى عند علماء الديموغرافيا بمبدأ الاصطفاء، وهو يعني باختصار أن مرافق العمل الإنتاجي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات متعددة ومتنوعة فمنها ما هو فني، ومنها ما هو علمي، ومنها ما هو عضلي ... إلخ ولابد أن يسد كل واحد من هذه المرافق بالعدد الكافي من الأشخاص الأكفاء.. غير أن الأشخاص الأكفاء لا يظهرون إلا ضمن مجموعة كثيرة من الناس عن طريق الاصطفاء، فالعباقرة العلميون لا يمكن العثور عليهم في ساحة لا يوجد فيها غيرهم، وإنما يتم اكتشافهم من خلال استعراض أناس كثيرين، وكذلك الفنيون، وكذلك غيرهم من ذوي القدرات أو الاختصاصات علي اختلافها.
وهكذا فإن من الثابت أن الأمة كلما كانت أكثر عددًا، كانت الصفوة فيها أكثر عددًا أو أكثر تنوعًا، ونتيجة لذلك تصبح فرص المهارات والاختصاصات أمامها أرحب وأوسع.
إذن فإن رأس المال الأول الذي لا غنى عنه لتحريك عجلة الحياة الإنتاجية إنما يتمثل في الفيض السكاني إذ يملأ رحب الأرض.
يتوهم بعض السطحيين أن عملية الاصطفاء هذه من شأنها أن تخلف وراءها كمية كبيرة من الناس الذين لا يمكن تصنيفهم مع أي فريق من العاملين، فيكونون بذلك عبئًا على المجتمع، وتبوء عملية الاصطفاء بالخسارة بدلًا من الربح.
ولا ريب أن هذا توهم باطل ينطوي على خطأ كبير في التقدير.. والحقيقة أن الكرم الإلهي قد وزع مزايا الملكات والطاقات بين سائر الناس، بحيث قل أن تجد – بالنسبة إلى الكثرة الكبرى – إنسانًا جردته الأقدار من كل طاقة فوقف هناك عالة على الناس.
غير أنه لا يمكن اكتشاف ما لدى الأفراد من ملكات وطاقات يتمتعون بها، وبتعبير أدق لا يمكن اكتشاف حاجة المجتمع إلى مواهبهم أو جهودهم إلا بعد ظهور صفوة العلماء والفنيين وأصحاب الاختصاصات المتنوعة حيث تتجلى من خلال خططهم ومشروعاتهم التي يتقدمون بها – الحاجة إلى ملكات أولئك الناس وطاقاتهم.. ذلك لأن مرافق الحياة كثيرة ومتوالدة، واحتياجات الإنسان أيضًا كثيرة ومتنوعة لا يكاد يحصرها عد، إلا أن وجه الحاجة إلى كثير من هذه المرافق والاحتياجات والتنبه إلى المشروعات المتوالدة عن بعضها، لا يستبين جليًا إلا بوجود تلك الصفوة المتنوعة من الناس قبل كل شيء.