ولكن هناك ثلاثة أمور أساسية لا بد من رعايتها في استخراج مسألة فقهية من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
١ - الاستقصاء التام لكل ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة التي تحت البحث.
٢ - بذل الجهود الممكنة لمعرفة السياق والموقف الذي بين فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا من أحاديثه.
٣ - بذل الجهود الممكنة كذلك للاطلاع على الظروف والملابسات السائدة في بلاد العرب في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمع رعاية هذه الأمور الأساسية نريد الآن أن نلقي نظرة على الروايات التي يستدل بها هؤلاء القوم للدفاع عن فكرتهم، ومما لا يخفى على أحد أنه كان قتل الأولاد هو الطريق الجاري في بلاد العرب لتحديد النسل، إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لسببين:
أولهما: تدهور الوضع الاقتصادي فكان الآباء لأجله يقتلون أولادهم خشية أن يشاركوهم في رزقهم.
وثانيهما: عاطفة الغيرة المجاوزة لحدودها العادلة، فكانت تحرض الآباء على وأد بناتهم خاصة خشية عار المصاهرة، فلما جاء الإسلام ندد بهذه الجريمة ونهى العرب عن اقترافها، وقلب عقليتهم في شأنها قلبا كليًّا.
ثم اتجهت فكرة المسلمين إلى العزل، أي الإنزال بعيدًا عن المرأة، ولكن من المعلوم أن العزل ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين، ولا كانت قد قامت فيهم حركة لتحديد النسل ومنع الحمل، ولا كان المقصود أن تتخذ من العزل سياسة قومية، ولا كانت من الأسباب المحرضة عليه تلك الأفكار والعواطف التي كانت تحرض الناس على اقتراف جريمتي قتل الأولاد ووأد البنات أيام الجاهلية، وإنما كان هناك ثلاثة أسباب هي التي حملت على العزل نَفَرًا من المسلمين، ولنا أن نعرفها بتتبع الروايات الواردة في كتب الحديث في باب العزل.
١ - خشية أن تحمل الأَمَة.
٢ - خشية أن تستحق الأَمَة إقامة دائمة إذا صارت أم ولد.
٣ - خشية أن يتعرض الرضيع لنوع من الضرر إذا حدث الحمل أيام الرضاعة.
ههنا سرد الإمام أبو الأعلى المودودي الأحاديث المبيحة للعزل إلى أن قال: " على أن هناك جماعة من الصحابة وغيرهم قد صح عنهم النهي عن العزل، يقول الإمام الترمذي في سننه: وقد كره العزل قوم من أهل العلم من الصحابة وغيرهم، ويروي الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمر، أنه كان لا يعزل، وكان يكره العزل، فالذى نعلم من تتبع الأحاديث والروايات من كلام النوعين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان أذن في العزل، بل كان يكرهه ويرى فيه فعلًا عبثا كما يكرهه جماعة من أصحابه رضي الله عنهم ".