للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١٧- وقد رد هذا الاعتراض بوجوه:

أ- إن الكذب يدخل الماضي والحاضر والمستقبل وإنما سومح في الوعد من أجل تكثير الوعد بالمعروف (١) .

ب - إنه لا يسلم أن التعاريف – أي الحدود- تستلزم أن يكون الوصف فيها بالفعل، إذ لو استلزمت ذلك لخرج الطفل الرضيع عن تعريف الإنسان ضرورة؛ لأن النطق الذي هو الفعل مفقود فيه بالفعل مع أن الطفل عند أصحاب التعاريف وهم الفلاسفة إنسان، وما قيل من استلزام كون الجماد والنبات إنسانًا لأنه قابل للحياة والنطق إنما هو جهل بمذهب أصحاب الحدود أو التعاريف، أي الفلاسفة القائلين بأن الحقائق مختلفة بصفتها الذاتية فلا تقبل حقيقة منها صفة الحقيقة الأخرى، فالحيوان لا يقبل أن يكون جمادًا والجماد لا يقبل أن يكون حيوانا، وبهذا فقد بطل كل ما قيل من أن الوعد لا يدخله الكذب؛ لأنه مستقبل (٢) .

جـ- إنه لا معنى لحديث الموطأ إلا أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل له من أن يخبر زوجته بخبر يقتضي تغيظها به، كأن يخبرها عن فعله مع غيرها من النساء بما لم يفعله أو غير ذلك مما يكون فيه التغيظ لزوجته، وسوغ له صلى الله عليه وسلم الوعد؛ لأنه لا يتعين فيه الإخلاف لاحتمال الوفاء به سواء كان عازمًا عند الوعد على الوفاء أو على الإخلاف أو مضربا عنهما، وأن السائل له صلى الله عليه وسلم إنما قصد الوعد على الإطلاق، وسأل عنه؛ لأن الاحتمال في عدم الوفاء اضطرارًا أو اختيارًا قائم، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم الجناح لاحتمال الوفاء، ثم إنه إن وفى فلا جناح عليه، وإن لم يف مضطرا فكذلك، وإن لم يف مختارًا فالظواهر المتضافرة قاضية بالحرج، فتبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الوعد قسيمًا للكذب من حيث هو كذب وإنما جعله قسيمًا للخبر عن غير المستقبل الذي هو كذب، فكان قسيمه من جهة كونه مستقبلا وذلك غير مستقبل، أو من جهة كونه قد تعين أنه كذب والوعد لا يتعين أنه كذب، وما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم منع السائل من الكذب المتعلق بالمستقبل، فمجرد دعوى لم تقم عليها حجة ولا تعين أن المراد ما قاله، كيف وإن ما قاله هو عين الوعد؟ فإنه لا بد أن يكون ما يخبر زوجته عن وقوعه في المستقبل متعلقا بها، وإلا فلا حاجة لها فيما يتعلق بغيرها، وما قيل من أن السائل لم يقصد الوعد الذي يفي فيه بل قصد الوعد الذي لا يفي فيه على التعيين، فإنه مجرد دعوى أيضا إذ من أين علم أنه لا يفعله وعلى أن يكون في حال الوعد غير متمكن مما وعد به؟ من أين يعلم عدم تمكنه منه في المستقبل؟ وإذا تعذر علمه بذلك تعين أن يكون سواء لاحتمال عدم الوفاء أو العزم على عدم الوفاء، فسوغ له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن عدم الوفاء لا يتعين، أو لأن العزم على عدم الوفاء على تقدير أن عدم الوفاء معصية ليس بمعصية، وأما حديث أبي داود فإنه يحمل على أن الواعد لم يف مضطرا (٣) .


(١) الفروق ٤/٢٤
(٢) تهذيب الفروق ٤/٤٥
(٣) تهذيب الفروق ٤/٤٥،٤٦

<<  <  ج: ص:  >  >>