للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣١- ويظهر الفرق بين فريقي المالكية في مسائل منها:

الأولى – لو قال له: إن غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم، فقال الواعد: نعم، ثم بدا له الرجوع فإن على مذهب أصبغ يجب الوفاء؛ لأنه وعد على سبب، وعلى مذهب مالك ومن وافقه لا يجب؛ لأن الموعود له لم يدخل في شيء إلا إذا اعتقد منه الغرماء على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه (١) .

الثانية – لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت: أنا أؤخرك لزمك تأخيره إلى الأجل؛ لأنه وعد على سبب وهذا مذهب أصبغ، أما على مذهب مالك وموافقيه فلا يلزمه ذلك إلا إذا ورطه بذلك أو تدل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد، والتورط يكون بأن يدفع ما بيده إلى دائن آخر أو شراء حاجة له بسبب بنائه على وعد الواعد (٢) .

٣٢- وحجة المالكية في تفصيلهم هذا أن النصوص الشرعية بهذا الصدد قد تعارضت فمنها ما أوجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهي الأدلة التي ساقها موجبو الوفاء بالوعد، ومنها ما لم يجعل إخلاف الوعد من الكذب كحديث الموطأ وأبي داود حيث إن الآية {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: ٣] نزلت في قوم كانوا يقولون: جَاهَدْنَا، وما جاهدوا، وفعلنا أنواع الخيرات وما فعلوا (٣) . ولا شك أن هذا محرم لأنه كذب، وأما كون مخلف الوعد منافقا فهو محمول على حالة كون الإخلاف سجية له أو تعمدا كما تقدم، فكان لا بد من حمل هذه النصوص على خلاف ظاهرها وأن يجمع بين الأدلة، فوافق هذا الرأي من أوجب الوفاء بالوعد إذا كان الوعد على سبب وباشره، ووافق من لم يوجب الوفاء بالوعد فيما عداها من الوعود المجردة، هكذا ذكر القرافي (٤) ، وقد رد ابن الشاط كلام القرافي هذا في حاشيته على الفروق: بأن جمع الأدلة ينبغي أن يكون بحمل حديث الموطأ وأبي داود بما يتسق مع الآية، وحديث خصال المنافق بأن تكون المسامحة في إخلاف الوعد اضطرارا (٥) .

٣٣- وقد انتقد ابن حزم تقسيم المالكية هذا وتفصيلهم وقال: بأنه لا وجه له ولا برهان يعضده لا من قرآن ولا سنة ولا قول صحابي ولا قياس، فإن قيل: قد أضر الواعد بالموعود إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة، قلنا: فهب أنه كما تقولون فمن أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره أن يغرم له مالا (٦) ؟


(١) فتح العلي المالك ١/٢٥٦
(٢) فتح العلي المالك ١/٢٥٧
(٣) الجامع لأحكام القرآن حيث ذكر أسباب النزول ١٨/٧٧ –٧٨.
(٤) الفروق ٤/٢٥.
(٥) حاشية ابن الشاط على الفروق ٤/٢٥
(٦) المحلى لابن حزم ٨/٢٨ أقول: لعل الحل عند ابن حزم في هذه الحالة هو رفع الضرر والظلم عن الموعود له أي أنه لا يرى الوعد هنا سببا لإيجاب ضمان على الواعد بناء على أن الوفاء بالوعد ليس بلازم عنده

<<  <  ج: ص:  >  >>