وفريق آخر ذهب إلى عدم الإلزام بالوعد مطلقا، ومن هذا الفريق الأئمة الثلاثة ورواية عن الإمام مالك. علمًا بأن الأئمة الثلاثة ما عدا مالك يجوزون هذا النوع من البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما، ولم يحتجوا بحديث حكيم بن حزام المتقدم على فساد البيع مما أضعف الاستدلال به في مسألتنا هذه، ومما يلاحظ في هذه المسألة أن كلام الفقهاء منصب في باب الوفاء بالوعد على العميل دون صاحب البنك أو المصرف فيما إذا لم يلتزم بالوفاء للعميل حسب الاتفاق الذي تم بينهما، فحسب علمي لم أجد أحدًا تناول الطرف الآخر بالإلزام أو بعدمه أو غير ذلك، كما هو الخلاف بالنسبة للعميل علمًا بأن الأضرار التي تلحق بصاحب البنك أو المصرف قد تلحق بالعميل إذا كان يترتب على عدم وفاء البنك بما التزم به من إحضار السلعة بوقت معين معلوم إضرار بالعميل: والخلاصة لهذا المبحث تتحدد في أن النصوص التي وردت في إطار الظنية في ثبوتها أو دلالتها، وهنا يتصدى الاجتهاد للبحث عن صحة السند من خلال دراية السند وطرق روايته أو يتصدى الاجتهاد للبحث في تفسير تلك النصوص بما يؤدي إلى وضوح الدلالة على المعاني المراد منها: الأمر (١) الذي يحتم على مجمعنا الموقر حسم الخلاف في هذه المسألة التي أصبحت ملحة وضرورية في حياة الأمة الإسلامية ولنا في مصادر الاجتهاد النبع الذي لا ينضب فإذا كانت النصوص ظنية الدلالة وشقة الخلاف فيها متسعة، والمسألة المطروحة ضرورية وملحة فإننا نلجأ لترجيح أحد القولين أو الأقوال على الآخر باستلهام روح التشريع الإسلامي الذي استهدف في أحكامه تحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم، وهو الذي يقدر ما إذا كان عملا معينا يحقق لهم مصلحة: أي يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم مفسدة، أي يدرأ عنهم ضررًا. وقد ذهب المالكية إلى أن المصلحة تخصص النص غير القطعي ومنها كل النصوص العامة، ومن ذلك تخصيص الحديث النبوي ((البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)) فإن المصلحة تقتضي عدم تحليف المدعى عليه إلا إذا كان بينه وبين المدعي خلطة حتى لا يسيء السفهاء استغلال هذا الحق ويكيدون لغيرهم رفع دعاوى أمام القضاء، كما أن المذهب الحنفي ويخصص النص بالمصلحة وإن كان عندهم يأخذ اسم الاستحسان ومنها تخصيص الحديث الذي يوجب رؤية العيان في الشهادة فأباحوا قبول شهادة التسامع في إثبات بعض الحقوق إذا اقتضت المصلحة فيها ذلك، مثل إثبات أصل الوقف صيانة للأوقاف القديمة من الضياع، وأجازوها في إثبات النسب والوفاة والدخول بالزوجة ومنها حديثنا محل الخلاف. فقد خصصوا النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده. فأباحوا بيع الثمار المتلاحقة بعد بدو صلاحها. وكذلك تخصيص النصوص التي توجب أن يكون الشهود من الرجال وحدهم أو من الرجال والنساء معًا، فأباحوا قبول شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه سوى النساء مثل الجرائم التي تقع في الحمامات الخاصة بالنساء وشهادة القابلة على واقعة الولادة وتعيين المولود عند النزاع فيه.
(١) انظر الجامع الصحيح ٣/٥٣٦ الغرر وأثره للدكتور الصديق الضرير ص٣١٨. وما بعدها