للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حق الأسبقية:

والنوع الثاني من الحقوق العرفية نستطيع أن نلقبه بحق الأسبقية، وهو عبارة عن حق التملك أو الاختصاص الذي يحصل للإنسان بسبب سبق يده إلى شيء مباح، مثل حق التملك بإحياء الأرض.

وقد ذكر بعض الفقهاء الشافعية والحنابلة مسألة بيع هذا الحق. وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الموات لا يملكها الإنسان إلا بإحيائها. وأما التحجير، فلا يثبت به حق التملك بالإحياء، فمن حجر أرضًا فإنه أحق بإحيائها، وقد اختلف الفقهاء الشافعية في أنه يجوز له بيع هذا الحق، أو لا يجوز. وجاء في نهاية المحتاج للرملي:

" ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، كحفر الأساس أو علم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشبًا، أو جمع ترابًا، أو خط خطوطًا، فمتحجر عليه، أي مانع لغيره منه بما فعله، بشرط كونه بقدر كفايته وقادرًا على عمارته حالًا، وحينئذ هو أحق به من غيره اختصاصًا لا ملكًا ... لكن الأصح أنه لا يصح بيعه ولا هبته، كما قاله الماوردي، خلافًا للدارمي، لما مر من أنه غير مالك، وحق التملك لا يباع كحق الشفعة. والثاني: يصح بيعه، وكأنه باع حق الاختصاص " (١) .

وجاء في المجموع شرح المهذب:

" وإن تحجر رجل مواتًا، وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم، صار أحق به من غيره ... وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به ... وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له، فانتقل إلى وارثه كالشفعة. وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أنه يصح، لأنه صار أحق به فملك بيعه، والثاني: أنه لايصح، وهو المذهب، لأنه لم يملك بعد، فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ " (٢) .

وقد ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله أن أبا إسحاق حينما أجاز بيع هذا الحق علله بكونه بيع حق الاختصاص، كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون أسفله (٣) .

وكذلك ذكر الفقهاء الحنابلة في هذه المسألة قولين: أحدهما الجواز، والثاني عدمه. يقول الموفق ابن قدامة رحمه الله:

ومن تحجر مواتًا وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) ، رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لأن صاحب الحق آثره به، فإن مات انتقل إلى وارثه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك حقًا أو مالًا فهو لورثته)) ، وإن باعه لم يصح، لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه، لأنه صار أحق به " (٤) .

وقال المرداوي:

" ومن تحجر مواتًا لم يملكه ... وهو أحق به، ووارثه بعده ومن ينقله إليه بلا نزاع، وليس له بيعه. هو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في المغني، والشرح، وشرح الحاثي، وابن منجا، والفروع، والفائق وغيرهم ".

وقيل يجوز له بيعه، وهو احتمال لأبي الخطاب، وأطلقهما في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير " (٥) .

والراجح في كلا المذهبين أنه لا يجوز بيع هذا الحق، ولكن ذكر البهوتي رحمه الله من الحنابلة أن عدم الجواز إنما هو في البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح.

يقول البهوتي رحمه الله:

" وليس له أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح. لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر الله قياسًا على الخلع " (٦) .

ومن حق الأسبقية ما ذكره الفقهاء من أن من سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق بذلك المكان، وله أن يؤثر به غيره، ولكن لايجوز أن يبيع هذا الحق، نعم: ذكر البهوتي أنه يجوز له التنازل عنه بعوض (٧) .

ولم أر في كتب الحنفية والمالكية من تعرض لمسألة بيع حق الأسبقية، وقد ذكروا أن التحجير يثبت به الأحقية في إحياء الأرض وتملكها، ولكن لم أجد بيع هذا الحق عندهم، وقياس قولهم إنه لا يجوز عندهم أيضًا إلا أن يكون بطريق التنازل.

فخلاصة الحكم في بيع حق الأسبقية أنه وإن كان بعض الفقهاء يجوزون هذا البيع، ولكن معظمهم على عدم جوازه، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال على وجه الصلح والله سبحانه أعلم.


(١) نهاية المحتاج، للرملي: ٥/٣٣٦؛ ومثله في زاد المحتاج، للكوهجي: ٢/٤٠٤؛ وتحفة المحتاج مع الشرواني: ٦/٢١٣.
(٢) تكملة المجموع شرح المهذب، للمطيعي: ١٤/٤٧١.
(٣) راجع مغني المحتاج: ٢/٣٦٧.
(٤) الكافي، لابن قدامة: ٢/٤٣٩.
(٥) الإنصاف، للمرداوي: ٦/٣٧٣، و٣٧٤.
(٦) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: ٢/٤٦٤.
(٧) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: ٢/٤٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>