والنوع الثالث من هذه الحقوق ما نستطيع أن نسميه " بحق العقد " ونقصد بذلك حق إنشاء عقد مع آخر أو إبقائه، مثل خلو الدور والحوانيت، فإنه حق لإنشاء عقد الإجارة مع صاحب الدار أو الحانوت أو إبقائه، ومثل حق الوظائف السلطانية أو الوقفية، فإنه حق لإبقاء عقد الإجارة مع الحكومة أو ناظر الوقف. وقد تحدث الفقهاء عن مسألة الاعتياض عن هذين الحقين، ونذكر فيما يلي خلاصة ما قاله الفقهاء في هذا الباب، والله سبحانه هو الموفق.
مسألة النزول عن الوظائف بمال:
إذا كانت لرجل وظيفة قائمة في الوقف يحصل منها على راتب، كإمام المسجد أو المؤذن أو موظف آخر، وكانت هذه الوظيفة دائمة بحكم شرائط الوقف مثلًا، فإن الموظف يملك حق البقاء على هذه والوظيفة وإبقاء عقد إجارته طول حياته، وقد تحدث الفقهاء عن الاعتياض عن هذا الحق. فأما الاعتياض عنه بطريق البيع فلم يجوزه أحد.
وأما الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح، فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء. فمنهم من منعه بحجة أنه حق مجرد لا يجوز الاعتياض عنه، ومنهم من أجازه.
أما الحنفية، فقد صرحت جماعة من متأخريهم بجواز النزول عن الوظائف بمال. جاء في الدر المحتار:
وفي الأشباه:" لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، على هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ". وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة:" المذهب عدم اعتبار العرف الخاص. لكن أفتى كثير باعتباره، وعليه فيفتي بجواز النزول عن الوظائف بمال ".
وأطال ابن عابدين تحته في تحقيق المسألة، وحقق أن جوازه ليس مبنيًا على العرف الخاص، وإنما هو مبني على نظائر فقهية. أما قياسه على حق الشفعة فقياس مع الفارق، وهو ما قدمنا في أوائل البحث عن البيري وغيره من أن حق الشفعة إنما شرع لدفع الضرر، والحقوق المشروعة لدفع الضرر لا يجوز الاعتياض عنها. أما حق الوظيفة فحق ثبت لصاحبه أصالة، فلا يحرم الاعتياض عنه، كما في حق القصاص وغيره. وعلى هذا الأساس ذكر ابن عابدين رحمه الله أن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه، ثم ختم كلامه بقوله:
" ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف وعدم الرجوع. وبالجملة فالمسألة ظنية، والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال، وإن كان الأظهر فيه ما قلنا، فالأولى ما قاله في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده "(١) .