للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الثابت يقينًا أن شراء الاسم التجاري على هذه الطريقة الثانية، إن خلا من الغرر في الوجود فإنه لا يخلو من الغرر في الحصول. بل إن احتمال عدم الحصول هنا أقوى بكثير من احتمال الحصول. إذا من الواضح هنا لكل من المتعاقدين أن الذي سيناله المشتري هو الشعار والاسم المجرد. أما الجودة التي تكونت منها قيمة ذلك الشعار، فهي باقية في تضاعيف جهود البائع وخبرته، هذا إن استمر في إنتاج تلك السلعة، وهي منتهية وآيلة إلى زوال إن توقف صاحبها عن مواصلة العمل والانتاج. ومن ثم فإن الغرر هنا أقرب إلى الغرر الوجودي منه إلى الغرر الحصولي.

ولا وجه للقول بأن الحق المتعلق بالاسم التجاري، حق مستقل بذاته وأنه من الحقوق المجردة، كحق الشورى والوظيفة والمنصب والولاية، وأن العرف قد جرى بالتنازل عنه على عوض، فأصبح كالتنازل بعوض عن الوظائف والمناصب المستحقة، وهو شيء أجازه وسوغه كثير من الفقهاء، ومنهم متأخرو الأحناف (١) .

نقول: لا وجه لهذا القول، لأن الاسم التجاري لا وجود له، أو لا معنى لوجوده بمعزل عن الشهرة التي اكتسبتها السلعة المقرونة به. وإنما نالت السلعة الشهرة بالجودة والإتقان، فغدا شعارها من طول الاقتران بها بمثابة الظل الملازم لها والمعبر عنها. فهو إذن ليس حقًا مجردًا، بل هو حق مالي متقرر، ولكنه يتمثل في القيمة التي تقابل الجودة أو تقابل حق الابتكار.

ونحن هنا لا نسقط عن الاعتبار احتمال أن تكون الجودة وهمية نسجتها في الأذهان الدعاية المجردة ومن ثم تكون قيمتها أيضًا وهمية مجردة ... ولكنا لسنا مخولين هنا أن نبني الأحكام الفقهية على ظنون سيئة قائمة على احتمالات خفية من هذا القبيل. بل القاعدة الفقهية العامة تلزمنا ببناء الأحكام على الظواهر، مع إحالة البواطن إلى الله عز وجل.

إذن، فإن بوسعنا أن ننتهي إلى شراء الاسم التجاري المتمثل فيما يسمى اليوم " الماركة المسجلة" بهذه الطريقة الثانية التي أوضحناها، عقد باطل، لا يوجد أي وجه لصحته، بسبب أنه مغرق في الغرر بأنواعه.

هذا إلى جانب أنه ذريعة جلية وغالبة إلى التلبيس والخداع في المعاوضات الجارية. فإن التاجر الواثق من جودة بضاعته أغني ما يكون عن أن يغطيها بشعار ينسج لها الشهرة من جهود غيره ولولا أن بضاعته يعوزها البرهان على الجودة والإتقان، لما سعى إلى القفز بها على صعيد الشهرة، اعتمادًا على مثل هذا الشعار.

والذرائع التي يغلب أن يتسبب عنا الضرر بالصالح العام أو المعارض لحكم شرعي ثابت، محل اتفاق من الفقهاء وعلماء الأصول على حرمتها ووجوب سدها (٢) .


(١) انظر حاشية ابن عابدين: ٤ / ١٤، و ١٥.
(٢) الفروق للقرافي: ٢ / ٣٢ و ٣٣؛ و" سد الذرائع في الشريعة الإسلامية "، للأستاذ هشام البرهاني: ص ٦١٥؛ وضوابط المصلحة، لكاتب هذا البحث: ص ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>