شيخ الإسلام ابن تيمية يبين أن المضاربة ثابتة بالسنة
قرأت لابن تيمية بيانا لحجية الإجماع، ومما جاء فيه (الفتاوى جـ ١٩ ص ١٩٢) :
الآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}[١١٥: النساء] .
وبعد أن ذكر الآراء المختلفة حول دلالة الآية الكريمة قال رحمه الله:
"ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا، فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم. فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا، والآية توجب ذم ذلك. وإذا قيل: هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول. قلنا: لأنهما متلازمان، وذلك أن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول، فالمخالف لهم مخالف للرسول، كما أن المخالف للرسول مخالف لله، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول، وهذا هو الصواب.
فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص، وهو دليل ثان مع النص، كالأمثال المضروبة في القرآن، وكذلك الإجماع دليل آخر، كما يقال: قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها، فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة. وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه، ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص.
وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك، بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لاسيما قريش، فإن الأغلب كان عليهم التجارة، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة، والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره، فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك. والسنة: قوله وفعله وإقراره، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة.
والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ، ويعتمد عليه الفقهاء، لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه، واتجرا فيه وربحا، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش، فقال له أحدهما: لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان؟ فقال له بعض الصحابة: اجعله مضاربة فجعله مضاربة. وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم، والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده. فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة.