ونقل صاحب المغني عن بعض الحنابلة أن التسعير سبب الغلاء لأن الجاليين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلدًا يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون. ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها، ويكتمها ويطلبها أهل الحاجة إليها فلا يجدونها إلا قليلًا، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب الملَّاك في منعهم من بيع أملاكهم وجانب المشترى في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حرامًا (١)
فالشوكاني يثير قاعدة مقطوع بها: إن الحاكم ليس له أن يحابي طرفًا ليستفيد طرف آخر. ولما كانت مصلحة البائع أن يبيع سلعته بالثمن الذي يرغب فيه دون أن يلزم أحدًا بالشراء منه، وكانت مصلحة المشتري أن يحصل على مرغوبه بأقل ثمن ممكن، ولما تعارضت المصلحتان وجب على الحاكم أن يعتزل عن التدخل، وأن يترك لكل من المتبايعين الاجتهاد لمصلحة نفسه شأن البيع الذي هو باتفاق مبني على المكايسة والمماكسة. فهذه النظرية يدافع عنها الشوكاني هي نظرية العرض والطلب في تحديد الأسعار، وقبول كل طرف بالنتائج المترتبة على ذلك، فكما يعجز الحاكم عند رخص الأسعار وخسارة التجار أن يفرض على المشترين سعرًا أرفع، فكذلك ليس له إذا غلت الأسعار أن يخفض منها لفائدة المشترين. وهذه النظرية هي نظرية سليمة في بادئ الرأي، لو كانت الحياة تجري على نسق وفرة العرض وقلته، ووفرة الطلب وضآلته. ولكن التجار قد يتدخلون لإعطاء صورة مفتعلة ليوفروا لأنفسهم أرباحًا أكثر كما سنبينه فيما بعد.
وأما صاحب المغني فإنه يبني تعليله في منع التسعير على أن التسعير ضرر محض لا صلاح فيه لا للمشتري ولا للبائع. فهو مفسدة وتصور خاطئ ناتج عن قصر في النظر. ذلك أن التسعير يؤول إلى الضرر بالمشتري (المستهلك) لأن تدخل السلطة يترتب عليه انقطاع العرض، لأن الجالبين إذا عرفوا أن السلطة تتدخل في تحديد الأثمان امتنعوا من جلب السلع للأسواق فيتضرر الباعة بتعطيل نشاطهم ويتضرر المشتري (المستهلك) بانقطاع ما هو في حاجة إليه ويغلو الثمن ولا بد.