وقد تعرضنا لذلك بالشرح والبيان موضحين أن هذه الشريعة جاءت لتكون رحمةً لا لتكون نكاية ونقمة والإسلام ما جاء إلا لإصلاح ما فسد من أحوال الناس، فليس له غاية في هدم ما اعتاده الناس من العادات الصالحة التي تعارفوها قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل، وهنا تعرضنا لموقف الرسول والخلفاء الراشدين والصاحبة والتابعين والأئمة المجتهدين من عادات الناس وأعرافهم، فقد نظم الخلفاء الراشدون على هدى الكتاب العزيز والسنة النبوية والمقاصد الشرعية عادات البلدان التي فتحوها حتى دخلت هذه العادات في التشريع الإسلامي.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدون الدواوين وينظم الجيش ويقرر الخراج والجبايات، وقد أبقاها على ما كانت عليه بالفارسية في العراق والرومية في الشام ولم تدون بالعربية إلا في عهد عبد الملك بن مروان كما نص عليه ابن خلدون.
وزاد التابعون في الأخذ بالعرف وتحكيمه لكثرة الفتوحات وتوسع رقعة الإسلام واعتناق كثير من البلدان لهذا الدين ودخولها تحت لوائه، فأقر التابعون ما كان صالحًا من العادات وأبطلوا الفاسد وهذبوا ما كان فيه عوج، وأثروا بذلك الأحكام الفقهية.
ولم يبعد موقف أئمة المذاهب عن سابقيهم فقد اعتمد أبو حنيفة العرف حتى جرى على ألسنة الناس أن أكثر المذاهب اعتبارًا له واعتمادًا عليه، وألف ابن عابدين رسالة خاصة أسماها " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف" وضمنها كثيرًا من الفروع الفقهية التي كان اختلاف الحنفية فيها لاختلاف أعراف البلدان الآخذة بالمذهب الحنفي ومثله الشافعي فقد تأثر بأعراف الناس وتجلى ذلك في اختلاف قوليه القديم والجديد والمذهب الحنبلي الذي اشتهر بالتمسك بالنصوص هو أيضًا حكم العرف في كثير من الفروع وقد نقلنا منها الكثير عن ابن قدامة وابن رجب وابن القيم وقد صرح هذا الأخير في إعلام الموقعين أن إهمال قصد المتكلم ونيته وعرفه جناية على الإنسان وعلى الشريعة ومثلهم الأوزاعي والشيعة فقد حكموا العرف في بعض القضايا.
أما المذهب المالكي فهو أكثر المذاهب اعتبارًا للعرف حتى جعله أصلًا من أصوله وهو عند المالكية من أعظم المرجحات قد استندوا إليه في معرفة أسباب الأحكام عند عدم النص واعتبروه اعتبار العلة مع المعلول ولم يلبسوه لباس الديمومة، إذ تتغير الأعراف والعوائد ويتغير الحكم بتغيرها، قال ابن العربي:"إن العادة دليل أصلي بنى الله عليه الأحكام وربط بها الحلال والحرام ".