الموضوع الرابع: في تقسيمات العرف، قسمناه إلى صحيح معتبر وفساد ملغى والصحيح إلى قولي وفعلي، وهنا تعرضنا لأنواع الحقائق وللفرق بين الحقيقة والمجاز كما تعرضنا لأنواع الوضع ثم قسمناه إلى عام وخاص، ونبهنا إلى التفرقة بين العرف اللغوي والاصطلاحي وإلى الشروط المستلزمة لاعتباره حتى تصبح له قوة الإلزام، كما نبهنا إلى تقديمه على الأصل والعادة لقصورهما عنه، كما ذكرنا اختلاف الفقهاء في اعتبار العادة قائمة مقام شاهد أو شاهدين، وذكرنا أمثلة كثيرة اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم في العادة من أنها تقوم مقام الشاهد أو الشاهدين. ثم نبهنا إلى أن اطراد العرف غير عمومه كما نبهنا إلى ما زاده رجال القانون من الشروط لاعتبار العرف، وألمعنا إلى أن ما زيد من الشروط هو مأخوذ في مفهوم العرف الصحيح في الشرع.
الموضوع الخامس: في سلطان العرف وهو سلطان واسع في استنباط الأحكام وتجددها وتعديلها وتحديدها وتقييدها، وفي تقعيد القواعد وتقريرها، وقد كان سلطانه قبل الإسلام مطلقًا غير مقيد بقيد ولا مشروط بشرط، له حرمة وقداسة حيث هو جزء من كيان الأمة ومميز من مميزاتها، ولهذا راعت الشريعة عوائد الأمم ولم يتعرض التشريع إلى تعيين الأزياء والمساكن والمراكب فلا ندب لركوب الإبل ولا مانع من ركوب الحمير أو الحمل على البقر كما هو الشأن في الهند، ولم تلزم قومًا باتباع غيرهم في اتباع عاداتهم وتقاليدهم، بل تركت كل قوم على ما هم عليه مما لا يناقضها أو يخالف مبادئها، وذلك لمرونتها وعمومها وشمولها لكل أحوال البشر في كل العصور وهو معنى صلاحيتها لكل زمان ومكان، فهي بأصولها وكليتها قبالة للانطباق على مختلف أحوال العرف في الفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصينيين والأتراك وغيرهم من غير أن يجدوا في ذلك حرجًا ولا عسرًا في الإقلاع عما تركوه من قديم عاداتهم الفاسدة دون انسلاخ بالكلية عما اعتادوه وتعارفوه مما هو مقبول ذلك أن أحكام الشريعة غالبًا كليات مشتملة على حكم ومصالح تتفرع عنها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد تتلاءم مع كل عصر، وذلك من سماحة الإسلام إذ هي رحمة وليست بنكاية ولا نقمة كما قدمنا.
ومن سلطان العرف تخصيصه للعمومات وتقييده للمطلقات بحملهما على ما يقتضيه: وإن اختلفت المذاهب في ذلك إذ جعل بعضهم ذلك للعرف القولي دون الفعلي وعاكس بعضهم ذلك، وأطلق بعضهم فجعله لكل عرف ومنعه بعضهم مطلقًا ولكنه اعتمده في تقسيم الدليل الشرعي اللازم حمله على المعنى العرفي كما هو مذهب الجعفرية، وقد ذكرنا أمثلة كثيرة موضحة لهذا الاختلاف، ولفتنا النظر إلى أن الفقهاء أولوا عناية خاصة لما جرى به العرف والعمل وألفوا كتبًا في ذلك أوردنا منها جزئيات كثيرة وأجرينا مقارنة في كثير منها بين ما جرى به العمل في تونس وما جرى به العمل في فاس وقرطبة قصد التيقن من قوة العرف وسلطانه في إنشاء الأحكام وتأثيره في اختلاف الفقهاء والحكام وهنا نبهنا إلى ما يجب على الفقيه من اتصاله بالناس حتى يتعرف على عاداتهم وتقاليدهم ويقف على معاملاتهم، إذ بذلك يصادف الحق في أحكامه وفتاويه ويكون أرفق بالناس على ما تقتضيه قواعد الشريعة من التيسير، ولذلك قال القرافي " الجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسف الصالحين ".