للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموضوع السادس: في بيان أن الأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير بتغير العادات والأحوال وهي قاعدة قررها علماء الاجتماع وتنبه إليها من قبل علماؤنا، يشهد لذلك كلام ابن خلدون في مقدمة كتابه العبر، وهذا ما جعل المتأخرين من الفقهاء يفتون في كثير من المسائل بخلاف ما أفتى به المتقدمون، وقد حصرنا دوافع هذا الاختلاف في ثلاث: تبدل الزمان وتباعد البلدان واختلاف الجهات والتقدم واختلاف الحضارات، وقد أوضحنا كل قسم بأمثلة تبرز مقام كل سبب من هذه الأسباب من عهد الرسول والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى هذا الزمان، فقد ورد النهي عن التقاط ضالة الإبل، وأمر عثمان بالتقاطها وورد الحكم بقطع اليد في السرقة وأفتى عمر بعدم القطع في الغزو وفي السرقة من الغنيمة على تفصيل في ذلك، وورد الإعطاء من مال الزكاة للمؤلفة قلوبهم ومنع من ذلك عمر، وقد مثلنا لتغير الأحكام نتيجة تطور الحياة ووسائلها بمثل تسجيل العقارات والأراضي، إذ بها ينضبط الملك بطريقة لا يخشى معها ضياع حق أو تلاشيه. وأنهينا فوائد ذلك إلى اثني عشر فائدة. ومما اقتضاه التطور والتقدم في الحياة المدنية تسجيل عقود الزواج بدفاتر الحالة المدنية بالمجالس البلدية نظرًا لضعف الإيمان وخراب الذمم وانعدام تقوى الأزواج أحيانًا كثيرة في الزوجات والبنين، وقد ضربنا أمثلة كثيرة موضحة للمقام ولا شك أن التطور العالمي في مختلف الميادين التقنية والعلمية والتنمية الاقتصادية أوجب وضع قوانين مختلفة وتضمينات إدارية متعددة نتج عنها أوضاع وأشكال أوجب علاقة غيرت العادات وأوجبت نوعًا من الاعتراف ترتبت عليها أحكام كإلزام الحكومات لأفراد شعوبهم بجواز سفر للتمكن من الخروج والانتقال إلى الأقطار وإلزام الناس ببطاقة تعريف قومية تكشف عن هوية صاحبها وجبر السواق بحمل بطاقة جواز سياقة، كل هذه استلزمتها تطور المجتمعات وهي توجب على العلماء أن يبحثوا في كثير من الجزئيات التي اقتضتها الحضارة وتقدم الصناعة ووسائل المعيشة واتساع المدن وتكاثف السكان واجتماعهم بعمارات ذات شقق كثيرة وتشابك المصالح، كل هذا فرض تقاليد جديدة في الحياة وأعرافًا وعادات اقتضتها المصالح، كإنشاء المؤسسات الاجتماعية لحضانة الرضع ورياض الأطفال الذين تعمل أمهاتهم بالمعامل والإدارات وإنشاء دور الأيتام والعجز والمتخلفين ذهنيًّا والمعاقين وغيرها وغيرها. كل ذلك أدى إلى حياة جديدة وعادات مستحدثة استلزمت أحكامًا.

الموضوع السابع: منزلة العرف بين الأدلة، لقد اتفق الفقهاء على اعتبار العرف دليلًا من الأدلة التي انبنى عليه كثير من الأحكام عند عدم النص، كما انبنى عليه كثير من القواعد كقاعدة الثابت بالعرف كثابت النص، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة الممتنع عادةً كالممتنع حقيقة وقاعدة الحقيقة تترك بدلالة العرف، والعرف بين التجار كالمشروطة بينهم إلى غيرها من القواعد التي أحصيناها وكلها مرجعها إلى تقرير مصالح العباد في معاشهم وهو العدل والرحمة والمصلحة بحيث كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى النكاية ومن المصلحة إلى العبث ليست من الشريعة في شيء، لأن شريعة الله هي عدله بين عباده ورحمته بخلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>