للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العرف يساعد كثيرًا في الاجتهاد لأن النصوص لا تستوعب جميع التفصيلات، فالعرف يعين على تفهم الوقائع وتطبيق الأحكام عليها سواء أكان ذلك في معاني الكلمات وعبارات الناس أو معاملاتهم وعقودهم.

والعرف يقتضى تأليف النفوس ويقوي الوحدة ويجمع كلمة الأمة ويربط بين الناس، ولذا كانت مخالفته هدمًا لهذه الآثار، وبهذا ندرك أن مرتبته تأتي بعد مرتبة الكتاب والسنة حيث هو راجع إلى المصلحة وليس بعد الكتاب والسنة إلا المصلحة، ولقد اعتبره العلامة محمد الطاهر بن عاشور مصدرًا فطريًّا ولهذا لم يكتفِ به في بناء الأحكام العملية عليه، بل انبنت عليه قواعد أصولية، فإن كثيرًا من الاستحسان ومن الاستصحاب ومن المصالح المرسلة كان منشؤها العرف والعادة، وقد قال ابن العربي: " يترك الدليل العام لسبب من أسباب أربعة، المصلحة ورفع الحرج والإجماع والعرف " وقد مثلنا بفروع كثيرة ترك فيها الدليل العام لهذه الأسباب ومعلوم أن المصلحة تبنى على اختلاف أوضاع الناس وأعرافهم وهذه المصلحة المبنية على العرف.

الموضوع الثامن: ارتباط العرف بالقرائن والأمارات، أن القرينة تقوى فتبلغ إلى درجة اليقين وتضعف فتنزل إلى مجرد الاحتمال، وهنا أوضحنا علاقة القضاء بقرائن الأحوال وقسمناها إلى قرائن عقلية وعرفية وإلى قرينة شرعية قانونية وقرائن قضائية، وما كان من القرائن أسبابًا في بعض الأحكام وما كان منها دليلًا في تمحيص الوقائع وإثباتها عند الحكام، وفصلنا القول في القرائن اليقينية من القرائن الظنية ونقلنا عن ابن فرحون أحكامًا انبنت على القرائن وقد أنهاها إلى خمسين مسألة، ثم أوضحنا على أساس اعتبار القرائن، قرر الفقهاء حلولًا كثيرة في شتى الحوادث كما اعتبروها من المرجحات الأولية التي يعتمدها القضاء. وتعرضنا بالمناسبة لمن يصلح للقضاء بين الناس وما يشترط فيه من الشروط التي من بينها معرفته للعرف الصحيح المعتبر من العرف الفاسد الملغى- كما تعرضنا إلى متى يجب اتباعه لمن سبقه ومتى له أن يخالفه، وتطرقنا هنا إلى الكلام على بعض ما جرى عند بعض القبائل البربرية بالمغرب الأقصى من تطرف وابتعاد في عقود الأنكحة ومن مغالاة في اليمين بتشريك أقارب المتهم في تأدية القسم وفي أخذ الولي صداق ابنته لنفسه، ولاحظنا اختلاف أنظار علماء المغرب على طرائق ثلاث منهم من حمل على هذه الأعراف البربرية واعتبرها مروقًا من الدين وواجب محاربتها والقضاء عليها، ومنهم من سايرها ورأى أن مصلحة القوم لا تتحقق إلا بها فحبذها وآثر العمل بها ودافع عنها، ومنهم من توسط فأخذ بما يوافق الشرع ولا يناقضه وأنكر ورد وحارب ما يخالفه؛ وهذا ما اختاره الدكتور عمر بن عبد الكريم الجبيدي، ولقد أصاب في اختياره لأن معيار الأخذ بالأعراف بربرية كانت أو رومية أو فارسية أو مصرية فرعونية هو معيار الشرع وميزانه فما وافق مقاصده ولم يتعارض مع نصوصه ومبادئه أخذناه واعتمدناه وما خالفهما نبذناه وطرحناه ذلك أن المصلحة لا تتحقق بالأحكام الجائرة فلا وجه لحرمان المرأة من ميراث أبيها ولا في تنزيل العقاب بغير الجاني ولا مصلحة في إفساد المال وإحراقه، والحق أن كل ما ناقض كلية من كليات الشريعة التي هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال هو مردود لأنه محض جور وفجور وفسوق وعصيان لا ينتج عنه إلا الخراب والدمار.

<<  <  ج: ص:  >  >>