للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اشتهر انفراد المالكية به، قال الزركشي: وليس كذلك فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك، ولقد أطنب أبو إسحاق الشاطبي المتوفى سنة ٧٩٠ هـ في بحث البدع والحث على التزام السنة من كتابه الاعتصام بما لم يسبق إلى مثله وفرق بين البدع والمصالح المرسلة تفرقة واضحة بينه، وأثبت فيها أن مالك بن أنس كان يقول بها على تشدده في نصرة السنة ومبالغته في مقابلة البدع حتى قال فيه أحمد بن حنبل إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه مبتدع، وقال فيه عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيت الحجازي يحب مالكًا بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة، كما أنه ممن أطنب غاية الإطناب في بحث المصالح من المشارقة نجم الدين الطوبي الحنبلي المتوفى سنة ٧١٦ حتى بلغ به الأمر إلى أن قدم المصلحة على النص والإجماع، وقد ركز كلامه على حديث أبي سعيد الخدري: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مرسلًا، ورواه مالك كذلك مرسلًا، وقال: إنه يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيا، ثم استدل على المسألة بعد أدلة من الكتاب والسنة تفصيلًا وإجمالًا وجعل مدار تعليل الأحكام الشرعية عليها ودعم ما ذهب إليه بالاستدلال بالنظر العقلي ولم يكتفِ بكل هذا حتى جعل رعاية المصالح مقدمًا على النص والإجماع عند التعارض فقال: وإن خالفها وجب تقديم رعاية المصالح عليها بطريق التخصيص والبيان لهما لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، ثم قال بعدها: واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من حديث ((لا ضرر ولا إضرار)) ثم قال: وليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام، ثم علل ذلك بأن العبادات وشبهما حق للشارع خاصة به، ولا يمكن معرفتها ومعرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته، فيأتي بها العبد على ما رسم له، ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله وضلوا وأضلوا، قال: وهذا بخلاف حقوق المكلفين، فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم، فعلينا أن نأخذها من أدلته، فإذا رأينا الشرع متقاعدًا عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فيتحصيلها على رعايتها (١)

ونحن إذا نظرنا الأمور الدنيوية من حيث الحلال والحرام ومن حيث القضاء والسياسة والآداب وجدناها تنقسم بحسب الأدلة إلى ستة أقسام:

الأول: ما فيه نص محكم قطعي الدلالة قطعي الثبوت، وهذا واجب العمل به ولا مجال للاجتهاد فيه ما لم يعارضه ما هو أرجح منه من النصوص الخاصة لموضعه أو العامة كنفي الحرج ونفي الضرر والضرار وكون الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (٢)


(١) رسالة نجم الدين الطوفي، المصلحة المرسلة.
(٢) سورة الأنعام: الآية ١١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>