للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيا: إن العرف في حقيقته يرجع إلى دليل من أدلة الشرع المعتبرة كالإجماع والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فمن العرف الراجع إلى الإجماع، الاستصناع ودخول الحمامات، فقد جرى العرف بهما بلا إنكار فيكون من قبيل الإجماع، والإجماع معتبر.

ومن العرف ما يرجع إلى المصلحة المرسلة لأن العرف له سلطان على النفوس، فمراعاته من باب التسهيل عليهم ورفع الحرج عنهم ما دام العرف صالحًا لا فاسدًا، كما أن في تحويل الناس عما تعارفوا عليه وألفوه، فيه مشقة وحرج، والحرج مرفوع لأنه مفسدة، وقد أشار إلى هذا المعنى السرخسي في مبسوطه حيث يقول:" لأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، ولأن في النزوع عن العادة الظاهرة حرجًا بينا " (١) .

ثالثا: احتجاج الفقهاء بالعرف في مختلف العصور واعتبارهم إياه في اجتهادهم، دليل على صحة اعتباره، لأن عملهم به ينزل منزلة الإجماع السكوتي فضلًا عن تصريح بعضهم به وسكوت الآخرين عنه، فيكون اعتباره ثابتًا بالإجماع (٢) .

وسلطان العرف كبير على الأحكام يدخل فيه جميع أبواب الفقة سواء أكان ذلك في العبادات أو المعاملات أو السير أو الأحوال الشخصية يقول جلال الدين السيوطي الشافعي: " اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثيرة، فمن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها ... والبناء على الصلاة في الجمع والخطبة والجمعة بين الإيجاب والقبول والسلام ورده، والتأخير المانع من الرد بالعيب، وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي وتناول الثمار الساقطة وفي إحراز المال المسروق وفي المعاطاة على ما اختاره النووي وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكساف في استئجار دابة الركوب، والحبر والخيط والكحل على من جرت العادة بكونها عليه ... إلخ (٣) .

شروط اعتبار العرف كأصل من أصول الأحكام:

من أجل اعتبار العرف وبناء الأحكام عليه، يجب أن تتوفر فيه الشروط التالية:

أولًا: أن لا يكون مخالفًا للنص، بأن يكون عرفًا صحيحًا كما في الأمثلة التي ضربناها للعرف الصالح، قال ابن عابدين: " ولا اعتبار للعرف المخالف للنص، لأن العرف قد يكون على باطل بخلاف النص " (٤) وقد مثل للعرف الفاسد بما اعتاده العمال من الكشف عن العانة عند الاتزار وفي النزع مما حدا ببعض العلماء إلى القول: بأن السرة إلى موضع نبات الشعر، معتمدًا على تعامل بعض العمال بذلك فرد رحمه الله على هذا الرأي بقوله: " هذا ضعيف وبعيد، لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر " (٥) ومن هنا يظهر لنا فساد ما اعتادته كثير من النسوة من كشف شيء من أجسامهن كالساق وشعر الرأس والصدر والرقبة وما سوى ذلك من أجزاء الجسم الأخرى مما لا يجوز كشفه أمام الرجل الأجنبي لمخالفته النصوص الصريحة الناهية عن ذلك، قال الله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية (٦) .


(١) المبسوط: ١٣ /١٤.
(٢) أستاذنا زيدان في المصدر السابق.
(٣) انظر الأشباه والنظائر: ص٩٩.
(٤) انظر رسالته في العرف: ص٤.
(٥) انظر رسالته في العرف: ص٤.
(٦) [سورة النور: الآية ٣١] .

<<  <  ج: ص:  >  >>