للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثا – تعارض العرب والاجتهادات الفقهية:

لا تخلو المسائل الفقهية من أن تكون ثابتة بصريح النص أو أن تكون ثابتة بضرب من الاجتهاد والرأي.

فالأولى كانت مدار بحثنا عند كلامنا عن مخالفة العرف للنص الشرعي من كل وجه أو من بعض الوجوه، والثانية هي مدار كلامنا هنا فأقول: إن كثيرًا من المسائل الاجتهادية مبنية على عرف زمان المجتهد بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال المجتهد بخلاف ما قاله أولًا ولهذا قال العلماء من شروط الاجتهاد أنه لا بد للمجتهد من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام مختلف باختلاف الزمان وذلك بسبب تغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولًا، لأصاب الناس الحرج ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لأجل بقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام (١) .

ولذلك خالف مشايخ الحنفية ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذًا من قواعد مذهبه.

من ذلك:

(أ) إفتاء متأخري الحنفية بجواز الاستيجار على تعليم القرآن ونحوه بسبب انقطاع العطايا عن المعلمين التي كانت تنهال عليهم في الصدر الأول، ولو لم نحكم بجواز أخذ الأجرة على التعليم لأعرض الناس عن هذه المهنة بسبب انشغالهم في الكسب للحصول على لقمة العيش، وبذلك يضيع العلم والتعليم وكذا جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة والصاحبان من عدم جواز الاستيجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة وسائر العبادات الأخرى.

(ب) ومن ذلك أيضا تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول أبي حنيفة بناء على ما كان في زمنه من أن الإكراه لا يقع إلا منه، وبفساد الزمان أصبح الإكراه يتحقق من غيره أيضًا، فقد قال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون لهذا السبب.

(ج) ومن هذا القبيل قول أبي يوسف ومحمد بعدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة مع مخالفة هذا القول لما نص عليه أبو حنيفة بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة بسبب عيشه في ذلك العصر الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهما أدركا الزمن الذي فشى فيه الكذب وقد نص العلماء على أن هذا الاختلاف اختلاف عصر وأوان لا اختلاف حجة وبرهان (٢) .


(١) ابن عابدين في المصدر السابق: ص١٨.
(٢) ابن عابدين في رسالته العرف: ص ١٨ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>